بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 2 يونيو 2016

سنا الأنوار من ذكرى العلامة المختار

سنا الأنوار  من ذكرى العلامة المختار
خاطرة بمناسبة مرور 52 سنة على وفاة العلامة محمد المختار السوسي
(1383هـ/ 1963م-1437هـ/2015م)

عنّ لي وأنا أعمل على إجابة رغبة ابن العم السيد أحمد رضى الله بن العلامة محمد المختار السوسي، بتحرير خاطرة بمناسبة حلول الذكرى 52 لوفاة والده المنعم العلامة الوطني المؤرخ الغيور، الذي وفاه الأجل في 17 من نونبر عام 1963م، لتنشر في موقع جمعية الوفاء على الشبكة العالمية للمعلومات الذي يشرف عليه، أن أبحث في هذه الشبكة عن جديد ما نشر حول هذا العلم المغربي والإسلامي الكبير، اعتبارا لأهمية هذا المجال في نشر المعرفة العصرية، واتكاء الناس عليه في نشر المعلومات والبحث عنها. حتى صارت تمثل طبيعة التفكير في مختلف الأقطار والأزمان، واهتمامات الناس ومشاغلهم وهمومهم.
وقد استعنت بمحرك البحث گوگل، وخطر لي أن أبحث في مختلف أبواب البحث، فمررت بالويب، فوجدت 181 ألف إحالة على اسم العلامة السوسي، ( محمد المختار السوسي) و125 ألف عند كتابة اسمه بالحروف اللاتينية( (Mokhtar Soussi اشتمل كل ذلك عددا هائلا من المقالات والدراسات والإشارات لشخصه الكريم، ترجمة لسيرته، أو تناولا لفكره، أو أعماله في كتب ورسائل وأطاريح جامعية، أو شهادات معارفه وتلامذته، أو اقتباسات مما كتب عنه، أو كتب هو عن الناس، محررا لسيرته بأسلوب غير مباشر كما ذكر هو نفسه حينما سأله أحد المهتمين قائلا لقد كتبت عن كثير من الناس، فماذا كتبت عن نفسك؟ فأجاب كل ما كتبته عن الناس، إنما يتضمن ترجمة نفسيتي وفكرتي.
 ثم انتقلت إلى مجال الصور، فوجدت عددا كبيرا من صور الفقيه المرحوم في مختلف أطوار حياته، شابا حدثا ثم في عنفوان الشباب، ثم كهلا، ثم شيخا في مقدمة الشيخوخة حينما اختطفته المنون من بلد أحوج ما كان لحكمته وحنكته، كما وقفت على صورة للطابع البريدي الصادر منذ بضع سنوات تكريما له، ورأيت هناك أيضا عددا كبيرا من صور شيوخه وأبنائه، وتلامذته وأصدقائه، ومحبيه وقراء كتبه ودارسي مؤلفاته، وصور كتبه ومخطوطاته، ومسقط رأسه، وهكذا كان المختار دائما من الناس وللناس مخلصا للود، متذكرا للإخوان حتى في أحلك اللحظات، محافظا على العهد وإن بعدت الديار وشط المزار.
ثم انتقلت إلى مجال الفيديو وفيه أشرطة كثيرة من برامج تلفزيونية أنجزت حول هذا العلامة الوطني الفريد، بالعربية والأمازيغية، منذ انتبه المغاربة إلى أهمية تراثه المعرفي المتنوع بدءا ببرنامج حضور وانتهاء ببرنامج الرواد وغيره، إضافة إلى تسجيلات دروسه الوعظية التي سجلها بالإذاعة الوطنية خلال أشهر رمضان من سنوات 1960 إلى 1963م، كما تضمنت المرئيات تسجيلات لمختلف الندوات التي شهدتها مختلف مناطق المغرب حول العلامة السوسي ومنها نوادر مثل ندوة فاس التي نظمتها جمعية إيليغ سنة 1990، واشتملت على مشاركات فطاحل العلم والتاريخ والأدب في المغرب.
ثم انتقلت إلى باب الأخبار، فوجدت العلامة موجودا في ثناياها، وقد لفه اللحد منذ 52 سنة، ومن جملة 949 خبرا، وجدت أحداثا ووقائع تتعلق بمؤسسات حملت اسم الفقيد من ثانويات ومستشفيات ومدارس، وأخرى ارتبطت برفاق دربه في الكفاح والنضال الوطني، ولمّا كان من القضايا الساخنة – بلغة الإعلام – في هذه الأيام قضية المهدي بن بركة، وقد تم تخليد ذكرى اختفائه المبهم في حفل كبير تليت فيه رسالة ملكية سامية، فقد ورد ذكر العلامة السوسي وكتابه معتقل الصحراء، وما دبجه في ترجمة هذا الرجل – ذي المصير الغامض – أثناء ترجمته لمعتقلي أغبالو ن كردوس. كما ورد ذكر السوسي في السجال الدائم الذي لا ينقطع بين المتعصبين للأمازيغية الذين لا يرون الحق إلا في تحريف هوية المغرب عن حقيقتها، ومجادليهم من المنصفين الذين يضعون الهناء موضع النقب مستشهدين ومستندين إلى علماء المغرب العظام الذين نبغوا في علوم العربية والإسلام، مع انهم رضعوا لبان الأمازيغية من ثدي أمهاتهم، وفي طليعتهم العلامة السوسي. كما ورد ذكر السوسي في بعض المواقع التي أوردت خبر صدور كتب ومؤلفات مثل كتاب ” أعلام وأقلام القصر الكبير” لمؤلفه محمد العربي العسري، بوصفه اتبع منهج السوسي وزملائه من مؤرخي مرحلة الحماية في التأريخ الجهوي للمغرب مدنه وقراه وجهاته.
ثم انتقلت إلى الخرائط، وكانت المفاجأة أنها لم تخل من ذكر العلامة السوسي، فهذا مسجد باسمه بأيت ملول بعمالة إنزكان أيت ملول، وهذا سد بأولوز شرق تارودانت، وهذا مستشفى بتارودانت، وهذه دار الشباب في منطقة تارّاست بإنزكان، وهذه إعدادية بشارع الرياض بمدينة القنيطرة وهذه مصحة خاصة بأكادير، وتلك صيدلية بتزنيت، وذاك شارع بالمحمدية وآخر بإنزكان، وتلك زنقة بالرباط.
أما في مجال الكتب فحدث ولا حرج، فعند البحث نعثر على 450 إحالة على كتب باللغة العربية و775 إحالة في اللغات الأوربية وعلى رأسها الفرنسية، منها كتب العلامة المطبوعة وأحيانا المخطوطة، كما نجد الكتب التي ترجمت له أو التي ورد ذكره فيها عرضا، وكذلك أعمال الندوات والأيام الدراسية التي نظمت حول جانب من جوانب فكره، وهي كثيرة، والكتب التي تناولت بالدراسة والتحليل مختلف نواحي الحياة المغربية في القرن العشرين وبعده، سياسيا واقتصاديا وثقافيا وفكريا ودينيا.
هذه جولة سريعة وسطحية في الشبكة العنكبوتية تخبرنا ببروز الاهتمام بالعلامة السوسي وجوانب نشاطه العلمي الذي ملأ دنيا المفكرين وشغل الباحثين وعموم المثقفين، وقد شغف الناس بالكتابة عنه وحوله، فكانوا ما بين من يعدد أياديه البيضاء وإحسانه للثقافة المغربية والتراث الوطني، وبين من ينظر إلى عمله وشخصيته نظرة ضيقة لا تتجاوز فكره القاصر القصير، وقليل ما هم ولله الحمد والمنة، قلت هذه نظرة سريعة في الشبكة العالمية، لأن الجانب المبحوث فيه هو الظاهر الممكن الوصول إليه، فمحرك البحث لا يقوم بإظهار النتائج في مواقع التواصل الاجتماعي، كما أن الأنترنيت الخفي الذي يضم آلاف قواعد البيانات، وملايين النصوص المغلقة دون التصفح المباشر المجاني أو المؤدى عنه، إلا لمن كان مسجلا وذا حساب في الموقع، ومنها دراسات وأبحاث حول العلامة السوسي بلغات مختلفة وفي دول متعددة، دون أن ننسى الإشارة إلى انتشار كتبه في مختلف مناطق المعمور من المكتبات الأمريكية والكندية المشهورة غربا وحتى مثيلاتها في اليابان شرقا مرورا بأوروبا وآسيا وحتى مكتبات الكيان الصهيوني الغاصب وخاصة مكتبة جامعة تل أبيب.
هذا الكم الهائل من النصوص والإحالات والكتب والمقالات والصور والأشرطة المرئية، كلها تقف لتتحدث عن العلامة المختار، بعد أن استراح من الدنيا وأهلها وانتقل راضيا مرضيا – بحول العلي القدير-إلى جوار ربه، وقد صار جزءا من التاريخ الذي كتب بعض فصوله، وصار إنسانا مذكورا مشكورا، تحرر عنه المقالات وتدبج القصائد وتنجز الأبحاث والأطاريح على خلاف ما ظن صديقه الأستاذ العابد الفاسي، الذي أورد عنه العلامة السوسي في كتابه ذكريات ( ص:18) ما يلي:
«أذكر يوما .. أنني قلت له في معرض شيء –وأنا أداعبه – أرأيت ما سيقول فينا من بعدنا، وكيف يتصوروننا، فقال: أبَلَغ بك الاعتداد بنفسك، حتى تحسب أن من بعدك سيُلْقون عنك محاضرات؟ وينشؤون عنك مقالات؟ وتصبح موضوع أخذ ورد بين الباحثين حول شخصيتك؟ فقلت له: ما أقسى نقدك للكلام.»
حقا وقع كلما اعتقد الفاسي أنه من باب الاعتداد والغرور، فقد انتشرت كتب السوسي وتلقفها الناس، وطبعت حتى خارج المغرب، ثم قدر لبعضها أن يصور وينشر على الشبكة العالمية فأصبح متاحا في كل زمان وفي كل مكان، كما حررت مقالات كثيرة عنه، ليس في المغرب وحده، بل في البلاد العربية ونشرت في العراق وقطر والإمارات والسعودية، وفي أوربا، وألقيت محاضرات كثيرة لا تعد ولا تحصى في الجامعات المغربية والمشرقية والغربية والشرقية القصية، وحررت أطاريح كثيرة، وأصبح العلامة السوسي موضع أخذ ورد بين الباحثين، ففي مجال التاريخ، نقاش بين من يرى فيه صاحب منهج متميز عن جميع أقرانه، يتفوق على أحدث مناهج الكتابة التاريخية، ومن يراه – كما قال عنه أحد رفقاء الكفاح- مجرد فقيه في الأجرومية، وفي مجال الفكر والدين، نقاش بين من يرى فيه رائدا من رواد السلفية الوطنية المحاربة للخرافات المقاطعة للتصوف وطرقه، وبين من يراه فقيرا صوفيا منغمسا في الطرقية وسبلها، وبين من يقف حائرا مستفسرا عن طبيعة جمعه بين السلفية والصوفية، مجتهدا في تقديم تفسير لما يظنه غامضا من مواقفه وأفكاره في الجانبين معا.
ليث شعري ماذا سيكون موقف الأستاذ العابد الفاسي، لو بعث في زمننا ورأى كيف يهتم الناس بالمختار وفكر المختار ومؤلفات المختار في المغرب وخارجه، وكيف انكب الباحثون في مختلف مجالات المعرفة على التنقيب في هذا التراث الضخم الذي تركه، وكيف جاراهم الأجانب في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وأمريكا وكندا واليابان؟ وكيف صار السوسي ملء السمع والبصر، بينما انطوى ذكر الأستاذ العابد الفاسي فلم يعد يعرفه أحد إلا قلة من الباحثين المتخصصين؟
ولعل الشاعر محمدا العثماني كان أفضل تقديرا لمنجز العلامة السوسي، وأكثر شعورا بأهمية موقفه من التاريخ وموقف التاريخ منه، وهو يقول في قصيدته الفارسية الرائقة:
جلست إلى التاريخ في عرصاتهوألواحه منصوبة لك تنظر
فكنت مدى خمس وعشريـن حجةمصاقبها تمسـي لها وتبكّر
تنسق أحداث الحياة منسقاسوى حدث قد كنته يوم تقبر
مؤرخ أقوام مؤرخ نفسهوإن لم يرد فيه سجل ودفتر
يخبر عن حيّ وميْت كأنماعلى غفلة عن حالتيه يخبر
وبعد، فرحم الله العلامة المختار ونور قبره بأنوار الرضى والقبول، وجلل جدثه بشآبيب المغفرة والرحمة والرضوان، هو ورجال ذلك الجيل العالم العامل، وبارك في الخلف وعوضنا من أمثاله خيرا كثيرا، آمين والحمد لله رب العالمين.

الجمعة، 5 سبتمبر 2014

بيدبا واليائس

(انطباعات عن توالي أحداث الانتحار في المغرب والعالم وإعلان عدد حالات الانتحار سنويا مؤخرا)

قال اليائس من حياته: لا أستطيع الاستمرار،  لا أستطيع..  أريد التخلص من هذه التعاسة.
قال بيدبا: وماذا ستفعل؟
قال اليائس: سأنهي الأمر سأقتل نفسي.
بيدبا : وهل التخلص من التعاسة يكون بالانتحار؟
قال: وماذا تنتظر مني؟ أن أستمر في هذه الحياة بلا معنى ولا طعم.؟
بيدبا : لن تكون سوى أحد 800000 من الناس ينتحرون في العالم كل سنة، ولكن تستطيع أن تغير الأمر،  لماذا لا تحيي نفسك؟  بدلا من أن تقتلها؟ تخيل هذا العدد الهائل من الناس لو عاشوا وتطوعوا في أعمال خيرية، كيف سيغيرون العالم؟
اليائس: كل ما تقوله مجرد هراء لا يمكن أن أقتنع به، البقاء على قيد الحياة مجرد عذاب، وأنت لم تجرب معاناتي لتحكم عليها.
بيدبا : كل الناس يتعذبون، والفرق أنك لا تريد الصبر، 8 ملايير من الناس يتحملون أعباء الحياة و800 ألف يختارون الهرب منها.
اليائس: فلسفة فارغة لا تهمني،  وثرثرة أنا في غنى عوها.
بيدبا: ما قلته لك هو الحقيقة، أنت الآن ميت الفكر والعقل والإحساس، وهذا حال كل اليائسين الذين تموت أرواحهم قبل موت أجسادهم بمدة طويلة، وكثير منهم لا ينتظر سوى اللحظة الأخيرة للموت الجسدي وإلا فأرواحهم ميتة مقبورة في نعش حي متحرك هو الجسد.
اليائس: كل ما تقوله فلسفة فارغة لا تهمني وقلبي يعتصره الألم، كيف تدعي أنني ميت وأنا أمامك أعاني وأتألم؟
بيدبا : إن الموت ليس موت الجسد وخمود حركته، بل موت العقل والروح.. فأنت الآن ميت لأنك لا تفكر ولا تبحث عن أفق جديد، بل إنك وصلت إلى نفق مسدود ووضعت روحك في عبوة مغلقة مظلمة،  لذلك أدعوك لأن تحيي نفسك؟  ألم تفكر في ابنتك الصغيرة وزوجتك؟
اليائس: لا تذكرهما لقد فكرت فيهما، ووجدت أن غيابي سيريحهما.
بيدبا :  بل سيعذبهما، ألم تفكر في ابنتك؟ ماذا ستقول عنك عندما تكبر. لا أظن إلا أنها ستحتقرك وتحتقر جبنك، فكرة واحدة ستقتنع بها أبد الدهر لقد كان والدها جبانا رعديدا، وعوض أن يواجه الحياة مواجهة الرجال اختار الجبان الهرب والفرار من المواجهة، في الوقت الذي سيشعر أقرانها بالامتنان لآبائهم، ستشعر ابنتك بالخزي والعار أيها الأب الجبان.
اليائس: أنا لست جبانا ولا رعديدا!  أنت تخرف وتهرف أيها العجوز،  لو كنت جبانا لما أقبلت على الموت الذي يهابه كل الناس بل كل الأحياء، بل أنا شجاع نعم شجاع في مواجهة الموت.
بيدبا : إذن أرني شجاعتك أيها الأب الذي يريد التخلي عن ابنته ويتركها وحيدة،  ألم تفكر أنها ستحتاج إليك؟ ماذا لو جاعت؟ ماذا لو افتقرت؟ ماذا لو مرضت؟ ماذا لو تعرضت للتحرش أو الاغتصاب؟ ماذا لو احتاجت والدها ليحضر حفل تخرجها وكانت متفوقة؟ ماذا لو تمنت حضور والدها في زفافها؟
اليائس صامتا ثم يجهش بالبكاء: ابنتي الحبيبة سامحيني، هذا كله من أجلك.
بيدبا : لا بل من أجل الأب الجبان الذي لا يريد أن يتحمل المسؤولية، وهذا ما يجعلني أشك في حبك لابنتك، بل أشك أصلا في كونك تعرف معنى الحب.
اليائس غاضبا وعيناه تقدح شررا: إلا هذا يا عجوز السوء،  لا أسمح لك أن تقول عني هذا.. وإلا قتلتك.
بيدبا ساخرا: لا آبه بتهديدك، الميت لا يقتل، ولكن أتحداك أن تبرهن لي على محبتك لابنتك.. أتحداك أن تبين لي مقدار هذا الحب،  أين رجولتك.. أين مشاعر الأبوة..
اليائس: إقدامي الآن على الانتحار أكبر دليل سأضحي بنفسي من أجلها،  هل هناك أعظم من التضحية بالنفس من أجل الآخرين، وعلى كل حال لقد حسمت الأمر وكل ما أفكر فيه هو طريقة التنفيذ، ولن توقفني أيها العجوز بخرافاتك.
بيدبا : ليس هناك أعظم من التضحية من أجل الآخرين، نعم ولكن تضحية بناءة وليست هدامة، وما يجعل قلبي متحسرا ويعتصره الألم هو صدمة ابنتك وهي تعرف حقيقة والدها المسكين تندما تكبر. لا شك أنها ستقدر تضحيتك من أجلها!  ههه يا لها من تضحية!!  فكر لو كنت مكانها، ماذا سيكون شعورك.
اليائس صامتا مشدوها.
بيدبا : لننه الأمر لدي طريقة ممتازة لتضحي من أجل ابنتك.. أقصد لتنتحر..
اليائس: ما هي،  قل أرحني بسرعة..
بيدبا : ولكنها مؤلمة بل شديدة الإيلام،
اليائس: ما هي لا يهمني أسرع..
بيدبا : أفظع طريقة هي أن تتحمل الألم، وتواجه الحياة وتؤجل انتحارك، وتعد نفسك لتخدم ابنتك، لا تفكر في أي شيء سواها، سعادتها،  سرورها، وفر لها كل ما ستحتاجه، اعمل ليل نهار، حتى تكبر ابنتك وتحقق ما تريد، أنهك نفسك، اشتغل بلا توقف، هذه هي التضحية، هذا هو الحب، أما الانتحار فهو سبيل الجبناء الرعاديد،
يرتفع عويل اليائس وهو يصرخ: ابنتي الحبيبة لا أستطيع أن أخذلك، سامحيني.. سامحيني..
بيدبا: عد أيها المسكين إلى زوجتك عد إلى ابنتك ورشدك عد إلى قلبك وإيمانك، عد إلى ربك.. وابك على نفسك، بل إنس نفسك لا تفكر سوى في أسرتك إحمها إعمل لأجلها، ضح من أجلها، قم بواجبك، لن تغير العالم بموتك، وإلا فأنت مغرور مجنون ولكن يمكنك أن تغيره بحياتك.. إحى من أجل ابنتك وسترى كم ستسعد هي وأمها بتضحيتك، بل ستسعد أنت بذاك،  وستعرف أن حياتك أفضل لهن من موتك، وحياتك ليست ملكا لك لتقرر بقاءها أو إنهاءها..
بيدبا: ماذا قلت أيها المسكين هل تملك قوة مواجهة الحياة كما تدعي أنك قوي في مواجة الموت؟
الذي كان يائسا: لقد كنت دائما قويا أيها الفيلسوف في حياتي وقد فتحت لي الآن نافذة من النور، وقد قبلت التحدي وسترى كيف سأستمر قويا حتى أقوم بواجبي،  وآنذاك سأفكر في مصيري.. لقد قلت خرافات كثيرة، ولكن تأكد أنني أحب أسرتي، وسترى ذلك نعم، سأقتل نفسي عملا وصبرا وتضحية.. سترى أيها الفيلسوف العجوز..
بيدبا: الآن خرجت روحك من نعشها المتحرك، الآن بدأت تحيي نفسك.. الآن بدأت تتخلص من براثين جبنك.. وتكتسب شجاعة مواجهة الحياة.
كتبها: المهدي بن محمد السعيدي
عفا الله عنه. 

الأحد، 24 أغسطس 2014

الأحاديث الوعظية الشلحية للعلامة محمد المختار السوسي



موضوعات الاحاديث.
1- توجيهات دينية عامة. (15:30 د)


لو تكلمت رمال الشاطئ.



لو تكلمت رمال الشاطئ لقالت:
" إن الذريعة التي تتذرعون بها أيها البشر لارتياد الشاطئ هي الابتراد من حرارة الصيف وتزويد الجسم بطاقة الشمس، والذريعة غير المقصد الحقيقي، وإلا لكان لكم في أنابيب بيوتكم وفي سطوحها وساحتها كفاية من الابتراد والاستحمام، ولقالت: إن المقصد الحقيقي أيها البشر هو انقيادكم لإرضاء الرغبات البشرية الكامنة في نفوسكم، وتسللكم من وراء الابتراد والاستحمام إلى التحلل من القيود وتخطي الحواجز، وقد علمتكم تجاربكم أن لا بقاء لكم إلا في ظل حماية القوانين والشرائع والأخلاق ففرضتموها على أنفسكم مرغمين، ولكنكم ما تزالون تحنون إلى فوضاكم الحيوانية القديمة فاتخذتم لها الشاطئ مكانا والمصيف زمانا؛ كي تتدرعوا بحرارة هذا وبلل ذلك للرجوع بإنسانيتكم القهقرى يوم كان الإنسان لا يستر إلا ما تسترونه اليوم في الشاطئ."
ولقالت:
"إنكم أيها البشر في الصيف لا تختلفون عنكم في ليالي البراقع ببعض بلاد أمريكا الجنوبية حيث يستر الإنسان وجهه ليتذرع عن طريق التسلي والتلهي لهتك ما حرمه في شرائعه وأخلاقه إرضاء لحيوانيته العريقة المتأصلة."
ولقالت: " إنكم أيها البشر في الشاطئ بين شخصين: شخص جاء يعرض ما حبته به الطبيعة من قوة وفتوة، وشخص جاء لاختلاس ذلك ولو بالنظر، وكلا الشخصين مغرور بنفسه مطمئن إلى أنه شيء، وإن لم يكن بشيء أمام ما يكتنفه هناك من قوة الطبيعة، فهو حتى في ضخام سفنه (دود على عود).
ولقالت:
" إن الزمان أطول دائما من أعماركم أيها البشر، وأنضر من شبابكم وأقوى من فتوتكم، فلا تباهوا عظمته بنقصكم، وإذا فقتم أبناء عمومتكم الحيوانات، فإنما فقتموها بأرواحكم اللطيفة لا بأجسامكم الكثيفة، فهلا أقمتم في الشاطئ معرض أرواح لا معرض أشباح؟"
ولقالت:
"عودوا أيها البشر إلى الاحتماء بشرائعكم وأخلاقكم وصونوا أجسامكم بسمو أرواحكم، واعلموا أن المغلوب من غالب الطبيعة، فقد كنت وأنا الذرات المدوسة تحت أقدامكم صخورا صلبة عاتية أتحدى الأمواج المتلاحقة آلاف السنين، فإذا زحفت إلي صاخبة مزمجرة كالرعد أو الصاعقة وجدتني آخذ عليها الطريق، فتتكسر عند أقدامي، فتذوب، ولكنها استطاعت بفضل مثابرتها –وهي المائعة اللينة- أن تفتتني في النهاية إلى هذه الذرات التي تدوسونها بأقدامكم وتثقلونها بجرائمكم وأجرامكم أأجسادكم أشد صلابة أم الصخور؟"
ذلك ما كنا قد نسمعه لو تكلمت رمال الشاطئ. 
الكاتب المغربي محمد بن عبد الله الروداني كوثر (ت1992م) 
المعسول 14 /235- 236 

الجمعة، 20 ديسمبر 2013

إصدار جديد بمناسبة خمسينية العلامة محمد المختار السوسي: "لب الفوائد.."


صدر يومه الجمعة 16 صفر الخير 1435 موافق 20 دجنبر 2013 عن مطبعة المعارف الجديدة بالرباط كتاب جديد بمناسبة خمسينية العلامة محمد المختار السوسي رحمه الله بعنوان " لب الفوائد فيما قيل عن العلامة رضى الله محمد المختار السوسي من كلمات وقصائد"، تضمن مجريات التأبين المقام بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاته والذي نظمته رابطة علماء المغرب يوم الأحد 29 جنبر 1963، وقد أشرف على إخراج هذا الكتاب المميز نجل المحتفى به الأستاذ عبد الوافي رضى الله، حينما تصدى بصبر وأناة لجمع الكلمات والقصائد التي قيلت بالمناسبة وتصنيفها وتصحيحها ونشرها في هذا السفر النفيس، وقد ألح علي الأخ الفاضل الكريم ناشر الكتاب في تسويد الصفحات بذكر انطباعي عن الكتاب ومناسبة صدوره، فاستحييت أن أرد طلبه، فحررت أسطرا أذكر فيها مشاعري بالمناسبة مناسبة صدور الكتاب ومناسبة ذكرى مرور خمسين سنة على وفاة المحتفى به رحمه الله، فها هو المكتوب، الذي تولى الناشر نشره آخر الكتاب، وقبله معلومات عن الكتاب، والله ولي الصواب.
عنوان الكتاب: لب الفوائد فيما قيل في تأبين العلامة رضى الله محمد المختار السوسي من كلمات وقصائد.
الناشر: عبد الوافي رضى الله بن محمد المختار السوسي، الساهر على نشر تراث والده.
عدد الصفحات:584.
المطبعة: المعارف الجديدة، الرباط
التاريخ: 1435/2013.

وهذا نص التقريظ:

من وحي " لب الفوائد.."

هذا كتاب مفرح مُسَرّ، ومحزن مبك في آن معا، مفرح مسر بالشهادات التي قدمها نخبة من نجوم الفكر المغربي الخلاق، وطائفة ربانية من أساتذة المعارف في المغرب الحديث، وجماعة من أرباب الأدب والإبداع الأصيل، وكوكبة طيبة مباركة من رفاق العلامة السوسي في النضال الوطني وزملائه في العمل التدريسي التعليمي، وأقرانه في التأليف والبحث العلمي، من مختلف مناطق المغرب بل من خارجه من العراق والشام وشبه الجزيرة العربية .. فأدوا ما رأوه منه من خصال وخلال، وما شهدوه من أفعال وأعمال، بما يشهد له بحسن السيرة، وكمال الخلق، وطيب السريرة، ونبل النفس، وعلو الهمّة..
كما أن الكتاب محزن مبك لما في ثناياه من أنات مستورة، وبكاء مكتوم، تنضح به كتابات الكاتبين وأبيات الشعراء الناظمين، تصور عظم المصيبة بالعلامة المختار، حينما فقده المغاربة والمغرب في زمن أحوج ما يكونون إلى علمه وحكمته، وخلقه وشهامته، وزهده وتضحياته.. فلو بقي المختار حيا بعد هذا التاريخ لكان وكان.. ولكن "لو" تفتح عمل الشيطان، وقدر الله نافذ على كل حال ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
مات العلامة المختار.. انقطع عن الدنيا، ولكن لم ينته علمه فهو باق بعده، بل مستمر بما قدّم للأمة من أعمال فذة صاغها بعقله الواعي وفكره السديد وسريرته الطيبة، وذكائه الوقّاد، وطموحه الوثّاب، فمازالت أعماله تنال يوما بعد يوم ما تستحق من اهتمام، وينثال الباحثون والمهتمون زرافات ووحدانا لمطالعتها والتمعن فيما حوته من معاني وأفكار وفوائد وأخبار..
وكما استمر علمه، استمر أبناؤه بعده مهتمين بمؤلفاته، يصونون المخطوط منها حتى لا تصل إليه يد الإهمال أو الضياع، باذلين ما استطاعوا من أجل نشره وإخراجه في أحسن حلة وأفضل طبعة،  معتكفين على ذلك يجعلونه ديدنهم وهجيراهم، طوال سنين مضت، حتى صارت مؤلفات والدهم المرحوم بكرم الله إن شاء الله - تثرى سنة بعد سنة تغني المكتبة المغربية والعربية الإسلامية، على اختلاف مجالاتها وتنوع اهتماماتها، وحتى صار اسم العلامة المختار بفضل هذا الإصرار العجيب على استكمال إخراج كافة مؤلفاته ملء السمع والبصر، وحديث كل ذي فكر وثقافة.. وأكاد أجزم أنه لم يوجد في تاريخ المغرب الحديث أبناء عالم بذلوا ما بذله أنجال العلامة المختار في سبيل إخراج التراث الضخم لوالدهم من جهود منذ أصدروا أول كتاب له في سنوات الثمانين من القرن الماضي حتى سنتنا هذه.
لم يمت العلامة المختار وهو في كل سنة يخاطبنا عبر كتاب أو كتابين من مؤلفاته، فتارة يحدثنا عن تاريخ المغرب ومجرياته، وأعلامه وذكرياتهم، وتارة يخبرنا عن شيوخه الحضريين أو السوسيين، وعن زملائه من العلماء الربانيين وتلاميذه من الطلبة المستنيرين، وتارة عن الرؤساء السوسيين، أو عن المعتقلين الوطنيين، حتى إذا رأى الملل يمد يديه إلينا، مال بنا إلى الفكاهة المفيدة والمرح المجمّ للفؤاد المنشط للفكر، فقرأ علينا ما سمع من الشيوخ من لطائف وما قرأ في كتب السوسيين من طرائف، وحدثنا عن العصائد والثرائد.. ونحن من كل ذلك مستفيدون، وبكلامه المعسول مستمتعون.. فمن يصدق بعد كل هذا أن المختار قد مات.. ؟
ثم هذا " لبّ الفوائد.." يصدر في هذه الحلة القشيبة الزاهية ولو أنه متشح بالحزن.. حزن الرفاق والزملاء والأحبة والأقربين لفراق المختار، حينما اختاره الله لجواره رحمه الله، فأظهروا من أحواله الغراء ما كان مستورا، ومن علمه الثر ما كان محجوبا عن كثير من معاصريه، ومن محبة الناس له ما كان مجهولا، حتى لقد كان عوام الناس يعزون بعضهم بعضا في وفاته، ويبكون حرقة فراقه.
 قرأت " اللب" فإذا به شهادات صادقة وكلمات دقيقة، يصف كل كاتب من كتّابها جانبا يعرفه عن العلامة المختار من زهده وورعه، ووطنيته ونضاله، وتدينه الصادق وورعه الخالص، وإنسانيته المفرطة، وحنانه الفياض، وعلمه الواسع وفكره العميق، وصبره وأناته، وحماسه الوثّاب، وإخلاصه الثابت..
لقد أطلق المشاركون في التأبين العنان لأفكارهم وعواطفهم، وقد كانوا يدركون أنهم يقدمون شهادة للتاريخ، ينبغي أن يوفوها حقها، ويكتبوا لمن سيأتون من الأحفاد على منهج السوسي نفسه ما سيحتاجونه للتعرف على صاحب المعسول وأخوات المعسول من مواقف وأحداث، وقد خبروه وعرفوه من خلال مرافقته سنين عديدة وعقودا مديدة..
لم يكن كلام المتحدثين ولا شعر الشعراء المبدعين إطراء في غير مكانه ولا ثناء مبالغا فيه، وإنما استدل الناثرون على وقائع ذكروها، ومواقف سردوها، واعتمد الشعراء عاطفة صادقة فيّاضة صدروا عنها، فوصل ما نثر الناثرون إلى العقول بالحجج فأقنعها، وبالأدلة الظاهرة فأخضعها، واتصل شعر الشعراء بالقلوب فأثر فيها، فكان من أعظم منن هذا الكتاب أن صوّر شخصية العلامة المختار من خلال أصدقائه، وهم نخبة من العظماء المحترمين في تاريخ المغرب الحديث، من العلماء والفقهاء وكبار المثقفين والمفكرين والكتاب، بل من نبغاء البلاد العربية والإسلامية. ولعل أكثر ما يؤسف له أن يتأخر طبع الكتاب إلى هذا الزمن.. وقد قيل ما قيل وكتب ما كتب.. منذ  خمسين سنة.. ولو طبع الكتاب في إبانه لكان له أثر عميق في التعريف بهذا العلم الفذ وإبراز فكره وبيان عمله ومنجزاته.
أخبرني أحد الأساتذة المحترمين الذين أعرفهم، فقال:
" لو قرأت ما كتب العلامة السوسي منذ ثلاثين سنة، لتغيرت نظرتي إلى الأمور بكيفية جذرية، ولو اطلعت على فكره لتغيرت حياتي كلية.. ولكن ذلك تأخر كثيرا فلم يبق لي إلا الأسف على ما ضاع مني من فرص.."
سألت نفسي وأنا أسمع كلام هذا الأستاذ المحترم: "هل نحن قوم الفرص الضائعة؟؟ في التعرف على العلامة المختار وعلى فكره؟؟ ومن الاستفادة من تصوراته ونظرته الإصلاحية ؟؟ وعلى النهل من فكر جيله الوطني المخلص؟؟" وعلى الاستفادة من تراث ماضينا القريب والبعيد؟؟
لعل صدور الكتاب يجيب عن بعض هذه الأسئلة، ومن قرأ  ما ورد فيه من كلمات، وأنشد ما سطّر فيه من أشعار، سيقرأ للمشاركين في التأبين مواقف عبروا عنها، وأفكارا أعلنوها، وتحذيرات أطلقوها، وأخطارا نبهوا إليها في تلك المرحلة الدقيقة من تاريخ المغرب المستقل، المغرب الباحث عن شخصيته وخصوصيته، الطامح إلى الارتباط بحضارته ومجده التليد، المتطلع إلى تحقيق النهضة الشاملة والتنمية المنشودة، وذلك كله كان شغل العلامة المختار وهمّه يبثه لأودائه من كل صديق وكل رفيق وكل طالب مخلص نبيه.. ويعلنه في أحاديثه الإذاعية وفي لقاءاته العامة وفي مؤلفاته الكثيرة.
لقد تابعت أخبار نشأة هذا الكتاب وتجمع أجزائه منذ كان "كلمات" معدودة، وجدها الأستاذ عبد الوافي رضى الله في أضابير خزانة والده، فأخرجها من صوانه، وانصرف إلى ترتيبها وقراءتها وتصحيحها، ثم انطلق بما رزق من صبر وأناة ودأب، للبحث عن ما نقص من إسهامات في التأبين لدى من بقي من الرعيل الأول المشارك في الحفل، يسأل ويستفسر، ويجمع وينقب، ويقابل ويوفّق، فكم من مخطوطة مبتورة مختلطة أخرج،  وكم من مرقونة مضطربة غامضة استخرج، حتى تجمّع له أغلب ما ألقي في ذلك الحفل المهيب، فتتبعه تشذيبا وتوضيحا، وتصويبا وضبطا وتحقيقا، وحتى وصل إلى هذه الصورة التي نراه عليها الآن بين أيدينا، كتابا تامّا جامعا لسجلّ تلك الأمسية الحزينة من أيام دجنبر عام 1964.
حينما نفتح الكتاب ونقرأ ما دوّن بين دفتيه نشعر بأننا نسافر في الزمن، إلى زمن المختار وأصدقاء المختار وأهل المختار ومحبي المختار، إلى ذلك الفجر النديّ الذي أحيته نفوس طيبة مؤمنة تبكي المختار وفراقه، وتذرف الدمع على غيابه، فلا ننفك نشاركها الحزن والألم الممض، فيا لله كيف تحيي أنّات الصادقين الأحزان، وكيف تكهرب قوافي الشعراء الصادقين عواطف الأحفاد ليبكوا فراق أحد أجدادهم وكأنه توفي البارحة، بينما كانوا إبان وفاته خلف سجف الغيب المستور.
غير أن المقصود من الكتاب ليس الحزن والكآبة ولا البكاء والعويل وإنما ليعرف اللاحقون كيف كان السابقون ينظرون إلى العلامة المختار ويقدرونه ويحترمونه، وكيف ينبغي للأحفاد أن يستفيدوا من تراث أجدادهم، لا بتقديسه والتبرك به، ولكن بالتفاعل معه، وإعمال الفكر في الاستفادة منه، وتلمس المناهج السديدة في البحث عن الفائدة منه بلا جمود ولا جحود، فهكذا كان العلامة المختار نفسه، يأخذ ويترك ويقبل ويرد على بينة ووفق دليل، وما دليله إلا الشرع الحنيف ومصلحة الأمة، وهما والحمد لله مجتمعتان لا تفترقان إذ "المصلحة المحافظة على مقصود الشرع" كما قال أبو حامد الغزالي.
فهنيئا لنا صدور هذا الكتاب، الذي يجدد ذكرى العلامة المختار بعد خمسين سنة من وفاته، ليلتحم تأبين الأجداد بذكرى الأحفاد، ويتآلف الجميع على الاحتفاء بالعلم وأهله من العلماء، فالعلماء هم الذين أقاموا الدين والدولة في المغرب، وهم الذين بنوا شرعيتها، وأسسوها على ثوابت واضحة راسخة لا تتزلزل بإذن الله، حينما قصدوا وجه الله بأعمالهم، وحرصوا على وحدة الأمة وأمن الناس، وربطوا مصير البلاد بإقامة الدين، وبنوا ذلك على البيعة الشرعية المحمية بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحصنوا البلاد من الفتن والبغي، وصانوها بالوحدة تحت ظل إمارة المؤمنين تحميها من عواصف الأزمنة وزلازل الأهواء والمؤامرات، لتستمر سفينة هذا البلد الأمين بفضل الله وبفضل عقيدة التوحيد وبركة القرآن الكريم وسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، تمخر عباب الزمن بإذن ربها آمنة مطمئنة بالرغم من مكر الماكرين.
وها نحن بعد خمسين من وفاة العلامة المختار، نكتشف ما سبق أن سطره في كتبه وأسفاره، وما دبجه في قصائده وأنظامه، أن للمغرب والمغاربة خصوصية تجعلهم مختلفين عن غيرهم من أمم الشرق والغرب، فلهم خصوصيتهم الفكرية والعقدية والدينية ولهم وحدتهم واتحادهم، ولهم تنوعهم الثقافي واللغوي، ولهم عاداتهم وتقاليدهم التي لا تصادم الشرع، ولهم ارتباطهم بتاريخهم المجيد وتراثهم التليد وحضارتهم العريقة، ولهم ثوابتهم الشرعية والوطنية التي تحميهم وتحفظهم، فلا مستقبل لهم إلا في اعتصامهم بما لأجدادهم من تدين وورع وعلم ومعرفة، ولا حياة لهم في الانحلال من أصولهم الثابتة عبر التاريخ، فذلك لا يؤديهم إلا إلى الدمار والهلاك، فلا انقطاع عن الآخر الموافق ولا اندماج بلا حدود في الغير المخالف، ولكن بصيرة وتبصر وإدراك لحدود الاستفادة ومحاذير التقليد.
لقد كان العلامة المختار يدرك أن زمنا قريبا سيأتي سيشعر فيه الأحفاد بالحاجة الملحة للاستمداد من تراث الأجداد، فبذل جهده في جمع ذلك التراث وحفظه، سيرا على منوال من سبقه ثم من عاصره من علماء المغرب العظام ومؤلفيه الكبار، ليجد الأحفاد ما هم في حاجة إليه يوم يشعرون بأن ماضيهم المجيد دليلهم لمستقبل مشرق، حينما يتأملون سير السابقين من سلفهم ليقتبسوا منها ما عسى أن يضيء أيامهم في ليالي الظلمات الحوالك، وهل هناك ظلمات أحلك من هذه الفتن المدلهمة التي ترتكس فيها بلاد العربية والإسلام في أيمنا هذه؟
نعم ها نحن نرى الآن كيف صار المفكرون في بلادنا يرفعون أصواتهم بضرورة الارتباط بالتراث الفكري والثقافي المغربي، وكيف يتنادون إلى النهل من فكر الأجداد، ويرون ذلك ملاذا عزيزا منيعا من مدلهمات المستجد من الفتن، وكيف صارت تتقوى أفكار القائلين بأن المغاربة لا يحتاجون لاستيراد تصور  عقدي ولا اتجاه فقهي ولا فكر اجتماعي خارج الأصول الزاخرة الغنية الموروثة عن السلف، مع ضرورة الانفتاح على العصر كما كان الحال دائما عبر التاريخ بأخذ النافع المفيد وطرح ما سواه من البهرج الزائف الذي يغشي بريقه المغشوش الأعين الكليلة، ولا يكون ذلك الخذ إلا بالاعتماد على معيار الوحي الرباني الممثل في القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم على اجتهادات علماء المغرب العظام ومن ماثلهم من أئمة المذهب المالكي ثم الاستفادة من اجتهاد علماء الإسلام.. وتنزيل ذلك كله على الواقع طلبا لمصلحة الأمة وديمومة قوتها ووحدتها..
فمرحى ذكرى المختار، ذكرى مضمخة بطيب التاريخ والتراث المغربي ومجده العريق، معطرة برنات القوافي ونغمات الأوزان، مروقة بمعسول البلاغة والبيان، ذكرى ممتدة في الزمان لا تفتر ولا تنقطع.. تسير لتبلغ مداها من إيقاظ الوسنان وهداية الحيران إلى سبيل الحق والهدى، ففي كل عام يذكر المختار وفي كل عقد يزداد الذكر والاحتفال، به وبأقرانه من عظماء علماء القطر المغربي الشامخ بحول الله - عبر الدهور معبرا عن الإخلاص لله رب العالمين ولنبيه الأمين والمحبة لأمراء وعلماء هذا البلد المكين بفضل الله وقوته ومنه، آمين
والحمد لله رب العالمين