بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 21 مايو 2010

الذكرى 25 لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير ..


http://www.univ-ibnzohr.ac.ma/portail_flsh/fadefac.swfتحل في هذه السنة الذكرى الخامسة والعشرون لتأسيس كلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير، كان افتتاح هذه الكلية حدثا مهما في تاريخ منطقة سوس، وفي مسيرتي الشخصية، كان ذلك سنة 1984، كنت آنذاك قد حصلت على شهادة الباكلوريا، وكنت متحمسا للدراسة الجامعية التي طالما سمعت عنها من زملائي وقرأت عنها في الكتب والسير والمذكرات وفي المجلات، كانت مرحلة علم وجد واجتهاد كما بدت لي وأنا شاب  صغير، أتذكر أول يوم لي في الكلية، أراه أمامي كأنه نقش في الذاكرة، خرجت من مدينة تارودانت مع رفقة لي من الطلبة الجدد في حافلة النقل الجماعي من ساحة أسراك في السابعة صباحا وصلنا أكادير بعد ساعة ونصف، توقفنا في محطة سيارات الأجرة والحافلات الحضرية، استرحنا قليلا في مقهى هناك وتناولنا الفطور، ثم رحنا نسأل عن حافلة النقل الحضري التي تربط الكلية بالمحطة، أخبرنا أحدهم عن رقمها انتظرنا جاءت حافلة صغيرة، ركبنا بعد أداء ثمن التذكرة، وسارت الحافلة بعد حين كان الركاب قلة قليلة  أغلبهم من الطلبة، كان القصد حي القدس آخر منطقة معمورة من أكادير، نزلنا سألنا عن مكان الكلية، أرانا أحد الركاب المنطقة كانت بعيدة عن العمران ولا تكاد تبدو منها سوى الراية في أعلى بنايتها، سرنا وسط حي الداخلة الذي كان خلاء يبابا، إلا من أعمدة الإنارة العمومية، كانت تجزئة سكنية في طور الإعداد، سرنا قاصدين الراية التي كان النسيم العليل بتلاعب بها، تلاعب الأماني والأحلام السعيدة بأفئدتنا، كيف لا ونحن مقبلون على التسجيل في الجامعة؟؟
وصلنا أخيرا.. هذا باب الكلية الضخم، دلفنا إليها، مازالت الكلية ورشا كبيرا لم تنه الأشغال منه بعد، كانت البنايات قد تمت وبعضها لما يصبغ، وأرضها عارية لا شجر ولا عشب فيها، كانت مقفرة، أو هكذا بدت لنا، ولكن الجدة كانت في كل مكان، كانت رائحة الجدة تفوح من البنايات والأبواب، كانت أصوات المطارق والبنائين والنجارين وغيرهم تملأ المكان، سألنا عن مكان التسجيل، كان كل شيء معدا لاستقبالنا، وجهنا أحد ما إلى المدرج، وجدنا فضاء كبيرا جدا لم نتخيل وجود مثله في الجامعة ومقاعد طويلة ممتدة، ولوحا أسود امامه مكتب كبير للأستاذ، كان كل شيء في الكلية يوحي بالضخامة والعظمة، مما زادنا رهبة وتوجسا بددهما الأساتذة الحاضرون في المدرج للإشراف على التسجيل ما زلت أذكر الأستاذ الزميل ( الآن) الدكتور مولاي الحسن السكراتي وهو جالس يشير على الطلبة ويهديهم لكيفية تعبئة الأوراق والملفات، جلسنا وقد اخذنا الملفات ودققنا في الخيارات، إلى أي شعبة ننتمي، كانت الشعب المفتتحة آنذاك قليلة جدا الفرنسية والتاريخ والجغرافيا واللغة العربية، كان الأمر بالنسبة لي محسوما، لا مكان لي إلا في شعبة اللغة العربية..
سلمنا الوثائق تأكد الأستاذ السكراتي من تعبئة الملفات بطريقة سليمة ثم سلمنا أحد الموظفين وصل التسجيل في انتظار تجهيز بطاقة الطالب.
مر وقت غير قليل في انتظار انطلاق الدراسة قضيناه في البحث المضني عن السكن، ويا له من بحث مضن، لم يكن الناس يعرفون معنى كراء منازل لسكنى الطلبة، ولا كيف يتعاملون معهم وكانت المساكن بعيدة جدا عن الكلية، لدرجة أنني في بعض السنوات كنت أقطن بمدينة إنزكان على بعد أزيد من 8 كلم من أكادير، ثم مرة أخرى في حي ودادية الموظفين أو في حي الخيام..
وأخيرا جاء وقت الدراسة ..انطلقت المحاضرات ولمّا تنتهي أشغال البناء والتجهيز، وبقينا لمدة شهور نسمع أصوات المطارق وهي تقطع علينا الدروس، ولم تجهز المدرجات بمكبرات الصوت إلا بعد مدة، ومع ذلك كانت تلك انطلاقة بديعة لمسيرة جديدة في حياتنا فتحت لنا أبواب المعرفة وآفاق العلم والفكر.. بفضل أساتذة أفاضل كانوا من الجيل الأول المكافح في التدريس بالجامعة، جيل الآباء المؤسسين الذين لن ننسى فضلهم - نحن أبناء تلك السنوات الأولى - منهم من التحق ببارئه ومنهم من تقاعد ومنهم من مازال قائما على الواجب لا يفرط فيه، سأذكر منهم الأستاذ محمد الماكري رحمه الله، والأستاذ محمد بزيكا عافاه الله، والأستاذ أيت وادريم رحمه الله، سأذكر منهم الوالد كما كنا نلقبه أستاذنا محمد المنزيل حفظه الله، والأستاذ محمد المغراوي الذي انتقل إلى كلية الآداب بالرباط والأستاذ محمد بلبول كذلك، والأستاذ عز الدين بونيت المندوب الجهوي للثقافة حاليا، والدكتور اليزيد الراضي رئيس المجلس العلمي المحلي لتارودانت حاليا، والأستاذ محمد الناجي والأستاذ محمد زاهي أعانهم الله، سأذكر منهم الأستاذ اللطيف الدكتور محمد الجابري، والأساتذة الذين مازالوا على ساق الجد الدكاترة محمد خطابي ومحمد حفيضي وإبراهيم الوافي ومحمد رضوان.. وغيرهم من الرواد الأوائل.. ولا انسى إدارة الكلية التي لم تكن تعنينا نحن الطلبة، ولم نكن نعرف منها سوى شبابيك شؤوننا لنسحب منها أوراق المنح أو الأوراق الإدارية، لا أنسى الأستاذ حسن بنحليمة الذي اشتغل بكد ودأب لتأسيس هذه المؤسسة العلمية وأعطاها من وقته وجهده ما جعلها في زمن وجيز تزاحم الكليات العريقة بالمغرب..لا ننسى الندوات والدروس الافتتاحية ولمحاضرات والأنشطة المستمرة..
ما أحلى تلك الذكريات وما أمتع تلك اللحظات الجميلة..وما أجمل أيام الدراسة والجد في المعرفة وطلبها، مرت أربع سنوات كطيف خيال أو حلم وسنان، وخرجنا من اكادير إلى آفاق بعيدة نستشرف منها معالم الأخذ وتعميق المعرفة..
ها هي ذي 25 سنة قد مرت، تقلبنا فيها ما شاء الله لنا أن نتقلب نحن أبناء ذلك الجيل السابق، جيل أوائل الطلبة بالكلية، وشاء الله تعالى أن أعود إلى العش الذي درجت منه، لأرافق من كانوا قبل حين أساتذتي وشيوخي، ولأرى الكلية والجامعة من زاوية جديدة: زاوية التدريس وحمل الأمانة..
مرت السنوات وكبرت الكلية وتغيرت أمور كثيرة وذهب أناس وجاء آخرون، وحدثت أحداث ووقعت وقائع، وتطورت الكلية نحو الأحسن تارة واتجاه الأسوء تارة أخرى، وهي تترنح في مسيرتها كأنها سفينة شامخة في محيط ثائر.. غير أنها مازالت هي هي تلك التي استقبلتنا في أحد أوائل أيام شهر شتنبر من سنة 1984 طلبة شببة صغارا مبتهجين من خروجهم حضن الأسرة والمنزل والحي والمدينة لاستشراف الأفق الأبعد، أحيانا حينما تخلو الكلية من كل ضجيج، حينما أسير فيها وحيدا تقريبا، ترجع إلي الذكرى، وتتزاحم الصور أمام ناظري، وأسمع خلال حفيف أوراق الأشجار صوتا رقيقا هادئا ينبهني: هنا كنت تجلس، هنا كنت تدرس، هنا كنت مع زملائك فلان وفلان تتجمعون، في هذه القاعة كنت تدرس عند الأستاذ الفلاني، هنا من هذا المدرج جلست إبان ندوة تارودانت حاضرة سوس واستمعت إلى عرض الأستاذ المرحوم عبد الله الكرسيفي، أتذكر الدرس الافتتاحي للدكتور عباس الجراري حول الأدب في الصحراء.. في هذا الجانب رأيت الأستاذ محمد حجي رحمه الله لأول مرة يتجول في الكلية.. في هذه القاعة كنتم تجتازون الاختبارات الشفوية الأخيرة..
حيا الله تلك الأيام وهنيئا لكليتنا بذكراها الفضية، وهنيئا لكل من أسهم في بناء هذا الصرح العلمي الشامخ، هنيئا لكل من استفاد منها وعرف لها حقها، وهنيئا لكل من أفاد بها وأدى الواجب كما ينبغي، هنيئا هذه الذكرى ذكرى تأتي  والكلية تعاني وعكة  أخلت بحيويتها المعهودة، فأضحت طريحة الفراش مما بها من أسقام، ولعل المعنيين بها ينتبهون إليها، فيداوونها بما يشفيها ويعود بها إلى سابق نضارتها، فهي لم تشخ بعد، بل لم تفارق عهد الشباب والفتوة.. ومازال في جعبتها الكثير مما تقدمه لجهتها ولمحيطها البار الخيرّ...

الأحد، 16 مايو 2010

تراثنا والفرصة الضائع..

شاهدت منذ مدة شريطا قصيرا بمناسبة المعرض المقام بأنكلترا حول الحضارة الإسلامية تحت عنوان " ألف اختراع واختراع..1001inventions" المنظم في شهر يناير الفارط، وهو معرض يعنى بعرض اختراعات المسلمين التي أثرت ولازالت تؤثر في حياة الناس اليوم في بيوتهم وفي مدارسهم ومستشفياتهم ومدنهم.. وغير ذلك، لقد امتعني هذا الشريط كثيرا كما أمتع كثيرين حتى إنه نال جوائز كثيرة في مهرجانات الأفلام،حقا لقد أغفل الشريط أسس ودوافع الإبداع عند المسلمين، إلا أنه مفيد لطرافة موضوعه ولجودة إخراجه وتنسيقه، ولكونه شريطا تربويا غاية في الإفادة، كما دفعني التفكير فيه وفي حيثيات إنتاجه إلى تسجيل جملة ملاحظات، أؤجل سردها إلى حين، والآن مع الشريط الرائق، وهو منقول من موقع قناتك.


شاهدت هذا الشريط، وبقدر ما أمتعني وأسعدني ما ورد فيه من أفكار، والطريقة التي قدمت بها منجزات الأجداد، تلك المنجزات التي شارك في إبداعها المسلمون من كل الأقطار ومن كلا الجنسين، حينما كان المبدأ الذي وحدهم هو لا إله إلا الله محمد رسول الله، وحينما كان التفاضل بالتقوى في العقيدة والإحسان في العبادة والمعاملة، حينما كانت الدنيا مشرقة بروح إيمان المؤمنين وصدقهم.
 بقدر ما أسعدني ذلك كله  شعرت بالحزن والأسف لما آل إليه حالنا في عصرنا الحديث من ناحية ولما يعكسه هذا الشريط - إذا قورن بالواقع - من ضعف الأمة وتخاذلها وانتشار الجهل والأمية وسط أبنائها، ليست فقط بين عامة الناس ودهمائهم ولكن في النخب الممسكة بمقاليد الأمور، تلك النخب التي لا تدرك عظمة هذه الحضارة وقوتها، ولا تعرف كيفية الاستفادة منها، وإنما حظها مظاهر خادعة وكلمات مرصعة تزخرف بها خطب المناسبات..
كل ذلك جعلني أتساءل هل نستحق فعلا أن نكون أحفاد أولئك العظماء من العلماء الذين أجهدوا أفكارهم في خدمة الوحي فهداهم إلى سبيل الرشاد ووضع أيديهم على أسرار الخلق والوجود، وسددهم إلى  رؤية ما لم يره غيرهم قبلهم.. هل نستحق الانتماء إلى هذه الأمة الراشدة المهدية؟ أم أننا طغام جاهل بليد لا فائدة فيه خلفته تلك الموجة الحضارية العظيمة وراءها غثاء كغثاء السيل، يزجي الأيام بالانتساب ولم يصنع في يومه ما يؤكد صلته بمن رحل قبله من الصانعين العظام..
أمر آخر وقفت عنده، وهو الفكرة التربوية التعلمية للشريط، التي جسدت فكرة أساسية طالما تغنى بها الكتاب والمفكرون وحاضر حولها الفلاسفة المؤرخون، وهي سبق الحضارة الإسلامية في كثير من ميادين الحضارة والفكر والعلم وإسهامها الثر في كل المجالات..وكثيرا ما صمّ المستشرقون ومن تابعهم من الجاحدين آذانهم حتى لا يسمعوا هذه الحقائق وأغلقوا أعينهم كي لا يروها، وقد أحسن منتج الشريط فخاطب عامة الناس في الغرب وفي الشرق معا، وترك المتخصصين لهمومهم، وما يهمنا نحن هنا ليس عزف اللحن القديم الممل حول المسلمين وأعمالهم، وإنما نقصد ماذا سنفعل بعد هذا؟ معرض حول اختراعات المسلمين في لندن وشريط يحصد الجوائز ؟؟؟ أين نحن من كل ذلك، هل نبقى عاجزين عن خدمة التراث بالتعريف به وذلك أضعف الإيمان..؟ متى سنضع أيدينا على هذا التراث لا لنحفظه ونقدسه ونجله، ولكن لنخدمه بنخله وفصل البعر فيه عن الجوهر، وأخذ العناصر النافعة منه وجعلها وسيلة لتنمية الإنسان والمجتمع، ووضع خطط التطوير بعيدا عن كل بهرجة وزيف، متى سنعطي القوس باريها فنخدم هذا التراث في الإعلام بإبرازه وجعل رجاله ونسائه مثلا يحتذى، وفي التعليم بالرجوع إليه والاستفادة مما فيه من مناهج وطرق ومعارف، وفي الأسرة بإحياء الارتباط العائلي وتقديس علاقات المحبة والتواصل بين ذوي الرحم، وفي الاقتصاد بإحياء اجتهاد علماء الإسلام في تدبير المال وتنميته وجعله وسيلة لتكريم الإنسان لا غاية نتيجتها إذلاله، وفي القانون ببعث فكر صيانة الحقوق موازاة مع فكر الإلتزام بالواجبات، وفي المجتمع بإعلاء مبدأ تكريم الإنسان واحترامه وجعل قيمته في ما يحسنه، وفي التدين والعبادة بتأسيسها على قيم التراحم والتعاون عوض التشاحن والتباغض..
إن تراثنا كيمياء حقيقية، ولكن أين من يعرف كيفية استعمالها وصفة النفع بها، وكأن الناس في عصرنا اتفقوا إما على الكفر بهذا التراث والخجل من الانتساب إليه، وإما على اللجوء إليه والعيش داخله في انقطاع عن العالم والعصر والناس، وذلك كله تطرف مهين وغلط مشين، وإنما الواجب بذل الجهد في الجرد والجمع والفهم والتحليل والاستقراء والاستنباط، ويقوم بذلك علماء الأمة الحقيقيون الذين يعيشون في زمننا بعيدا عن الأعين وخفية عن الأنظار، لايعرفهم الكثيرون..وكيف يبرزون للناس وهم يكرهون الشهرة ويزهدون في الظهور، ثم إنهم يعرفون زهد الناس فيما بين أيديهم، فاكتفوا بالانزواء والاشتغال في صمت بما تيسر لهم من جهود لعل زمنا آتيا ينصفهم ويبرئ ذممهم من الإهمال والتقصير ..
هذا تراثنا إذن منسي بيننا، نزهد فيه ونبيعه بأبخس الأثمان، ويعمد الأخرون إلى بعض أجزائه فيجلون صدأها ويلمعون معدنها فإذا هي بين أيديهم ذهب مسبوك وعقيان صاف يخطف الأبصار ويبهر الأذهان ويتغالى الناس في أثمانه، فواها لأمة أضاعت تراثها وفرطت في ميراث أجدادها.. ولم تدرك عاقبة ذلك إلا بعد فوات الأوان، والله المستعان.

الجمعة، 14 مايو 2010

ندوة تكريم الدكتور الجراري...

قبيل انطلاق الجلسة الختامية للندوة إعداد ومشاورات مع الأستاذ الحاتمي منسق فريق البحث
والأستاذ أحمد بومزكو المكلف بالشؤون الثقافية في المجلس البلدي لتزنيت ( تصوير: لحسن بايا)
عقدت منذ أيام ندوة تكريمية لأستاذنا الدكتور عباس الجراري، في موضوع :" الأدب بالجنوب المغربي في القرن 14 للهجرة" وقد شاركت في هذه الندوة بالتنظيم لانتمائي إلى فريق البحث في التراث السوسي  التابع لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بأكادير المشارك في تنظيم الندوة، وببحث علمي لأنني من تلاميذ المحتفى به، درست عليه منذ 21 سنة بالدراسات العليا في تخصص الأدب المغربي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط وبالضبط سنتي 1988 و1989 يوم كان يدرسنا بمعية أستاذي الفاضل المرحوم الدكتور علال الغازي والأستاذ الدكتور أحمد الطريسي أعراب المعار إلى إحدى جامعات الخليج العربي الآن.
كانت فكرة التكريم قائمة في أذهاننا منذ احتفى به طلبته سنة 1997 بمناسبة بلوغه سن الستين ثم حينما تم تكريمه بكلية الرباط عند تقاعده سنة 2002، وقد حضرت تلك الندوة، وكان المرحوم عبد الله درقاوي رحمه الله، وهو أستاذ بمركز تكوين المفتشين بالرباط، واحد تلاميذه الأوائل بمدينة فاس، حاضرا فصار يحثني على تنظيم تكريم للأستاذ لدوره في خدمة أدب منطقتنا سوس، وحدبه ورعايته ومحبته للسوسيين،حتى تخرج عليه منهم طائفة كبيرة ولكون أصله من هذه المنطقة، وبالضبط قبيلة أولاد جرار. فوعدته خيرا، وأن أستشير زملائي الأساتذة في ذلك الأمر لنعد العدة المناسبة..مرت أيام وأيام  وتوفي الأستاذ عبد الله درقاوي رحمه الله إثر وعكة صحية، ثم إذا بالسنة قد مرت على الاحتفال السابق ودعيت للمشاركة في ندوة علمية نظمها النادي الجراري حول الرحلات الداخلية، فجئت الرباط وقد حدثت زملائي عن اقتراح التكريم فتحمسوا له، ولقيت الأستاذ الجراري فذكرت له ذلك فرحب واستجاب واشترط أن يكون من فقرات التكريم زيارة منطقة أولاد جرار..
رجعت إلى مدينة أكادير بالقبول والشرط، وصرنا نعد العدة ونقترح المواعيد وفي كل مرة يطرؤ طاريء يمنعنا من الوفاء بالوعد .. وعدنا الأستاذ ثلاث مرات لم نستطع الوفاء إلا في الثالثة، وكان ذلك كله خيرا وخيرا كثيرا، فقد إلتأمت الندوة أخير يوم 22 جمادى الأولى 1431 موافق 7 ماي 2010، وتقاطر المدعوون على مدينة تزنيت، بعد أن تحمس المجلس البلدي للمدينة لاحتضان الندوة وانضاف إليه المجلس الجماعي لأولاد جرار، ثم جاء الأستاذ ليحل على الجميع ضيفا كريما بين أهله وأقاربه وبني عمومته..
ومرت الندوة وكانت ناجحة بكل المقاييس، فمن الناحية العلمية عالجت موضوعا  مهما وهو دراسة التحولات التي لحقت الأدب في الجنوب المغربي بأنواعه واجناسه وتنوعه اللغوي ( عربيا فصيحا وملحونا وامازيغيا وحسانيا) قبل الاستعمار وأثاءه وبعده، وقد تصدى لذلك طائفة من المتخصصين في دراسة أدب الجنوب بسوس ودرعة والصحراء، وكان غرضهم جميعا إبراز هذه التحولات واستشراف الآفاق المستقبلية لأدب مجتمع يصارع للحفاظ على قيمه وثوابته أمام المد الغربي الكاسح، وجعل الندوة وقفة علمية لتقييم هذا الأدب ومعرفة مساراته وتحولاته.
ومن الناحية الاجتماعية كانت زيارة منطقة أولاد جرار فرصة للدكتور الجراري ليجدد الصلة بأهله وذويه، وكان هؤلاء في المستوى فاستقبلوه بما يليق بمقامه العلمي، فهو أستاذ الأجيال وعميد الدراسات الأدبية المغربية في الجامعة، والمؤلف في الفكر والإصلاح والثقافة، ثم بمقامه السياسي فهو مستشار جلالة الملك وصاحب الحظوة والمقام الجليل في هرم السلطة المغربية، وذلك كله يشرف المنطقة ويفتح لأبنائها الآفاق لبلوغ منتهى الأمال برؤية أحد أبناء عمومتهم وقد ارتقى سلم المجد العلمي والجاه إلى أعلى مراتبه.
كانت فقرات الزيارة كثيرة لكن أبرز ما استوقفني مفاجأة أعدها أحد أعيان القبيلة الجرارية وهو السيد الحاج عبد الله مصدق للحاضرين ومنهم الدكتور عباس الجراري، حينما حرر وثيقة بتمليكه حصة من سقي عين أولاد جرار الثرة، معبرا برمزية دالة على احتضان القبيلة الجرارية لابنها الزائر ورغبتها في ارتباطه الدائم بموطنه الأصلي.. وقد وقعت هذه المبادرة من الدكتور الجراري موقعا حسنا عبر عنه في كلمته بالمناسبة، وفي سروره بالندوة كلها وشكره للقائمين عليها، وقوله أنه لم ير في كل التكريمات التي  نظمت له بمختلف مناطق المغرب، مثل هذه الحفاوة والعفوية والمحبة والصدق المتبادل، ولا غرابو في ذلك ما دام تكريمه هذه المدرة كان في بلده وبين أهله وذويه.
انتهت الندوة، وكنا نحن المنظمين في غاية السرور والسعادة لأنها بلغت الغاية وحققت جميع الأهداف، حققت الهدف العلمي بالمستوى الرفيع للأبحاث الملقاة، والهدف الثقافي بجمع الناس حول الاحتفاء بالتراث والأدب والفكر، والهدف الاجتماعي بتمتين الصلات والتعارف والتواصل.
أخيرا : قال لي أحد الفضوليين يوما ( وكان منعزلا عن الناس لا يشارك في اللقاءات إلا نادرا ودأبه الاشتغال بالتأليف): إن هذه الندوات التي تنظمونها خارج الحرم الجامعي قليلة الفائدة من الناحية العلمية. أجبته: إننا في فريق البحث في التراث السوسي لا نفرط  أبدا في المستوى العلمي مهما كان، ولكننا نحرص مع ذلك على ربط الفكر والمعرفة بالمجتمع، فنخرج أنشطتنا العلمية إلى الناس ليعرفوها ويعتادوها وينتفعوا بها كل على قدر فهمه ووعيه، وإلا فما فائدة معرفة تتحصن وراء أسوار الجامعة ولو كانت في أعلى المستويات العلمية، ولا تخرج إلى الناس لتبصرهم بماضيهم وتكشف لهم حقائق حاضرهم، وتدفعهم إلى التفكير في مستقبلهم.. هذه هي المعرفة النافعة الحية، وإلا فما حاجتنا إلى المومياءات المحنطة..
مزيد من التفاصيل مع تقرير الندوة هنـــــــــــــــــا

الخميس، 6 مايو 2010

حكاية البيروقراطية....

حدثني أحد  أصدقائي الموظفين في إحدى الإدارات، قال:"  كانت هناك نملة تعمل في إدارة، وكانت نشيطة متحمسة في عملها، تعمل بجد واقتدار ومهارة في كل ما أوكل إليها من الإدارة المركزية، وتنجز مهامها بكل جدارة وإتقان وفي أسرع الأوقات، مما استرعى انتباه رؤسائها، فقرروا المحافظة على وتيرة العمل عندها ودراسة كيفية عملها، فأرسلوا صرصورا كسولا  ليراقبها ويرفع تقارير متواصلة عنها، تسلم الصرصور عمله الجديد وكان عليه أن ينجز في كل يوم تقارير إحصائية لأعمال النملة، وطريقة اشتغالها، ويقوم برقنها وإرسالها إلى الإدارة المركزية، ولما كانت النملة نشيطة استعصت عليه مجاراتها، وبعد مدة قرر أن يطلب موظفا جديدا لمساعدته، وشيئا فشيئا تكاثر الصراصير والخنافس ما بين من ينجز التقارير ويرسلها ومن يقوم على خدمته وإعداد الشاي والقهوة،ومن يقوم بشراء لوازم المشروبات وإعداد صفقات الشراء..وإحضار الجرائد  وتوزيعها على الموظفين... واحتاجت النملة إلى اقتطاع جزء من الوقت الذي كانت تصرفه في القيام بمهامها للإجابة على أسئلة الموظفين المحيطين بها فيما يتعلق بعملها، كما كانت مضطرة في كل مرة يعين فيها موظف جديد أن تترك عملها وتتفرغ لإخباره بطرق الاشتغال وحيثيات الإنجاز ، فأدى ذلك  إلى تناقص وتيرة عملها، ولفت ذلك نظر الإدارة المركزية التي سارعت إلى إرسال لجنة من الخنافس لدراسة الوضع. حلت اللجنة بالإدارة وبقيت عدة أيام لتقييم الحالة ودراستها، وبعد تحليل مستفيض خلصت إلى أن المسؤول الأول والأخير عن تراكم الأشغال هو النملة، فحررت تقريرا مطولا أرسلته إلى المدير المركزي الذي بنى عليه قراره النهائي بطرد النملة من العمل، لأنها لم تعد تنجز الأعمال المطلوبة في الأوقات المحددة..."