بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 31 ديسمبر 2011

فقيه الأجرومية.. والمعتقل.

          "فقيه الأجرومية" من الألقاب التي  نبز بها العلامة محمد المختار السوسي، حينما رفض أن يكون سياسيا يفاوض ويزايد على حساب مبادئه وقيمه الراسخة، وحينما فضل ممارسة التغيير الفعال بدلا من الاشتغال بالمغانم الحزبية أو جعل المجاذبات السياسية وسيلة للوصول إلى المناصب والتآمر على الجالسين على الكراسي.. لقد اختار العلامة السوسي السبيل الصعب للإصلاح وهو التضحية والبعد عن الظهور والصبر على تغيير الواقع بالعمل الميداني عن طريق التوعية والتعليم والتثقيف ونشر المعرفة، فيما انصرف آخرون إلى الطريق السهل وهو طريق إسرار الحسو في الارتغاء، وقد انتهت حياة الجميع وانتقلوا من دار الفناء إلى دار البقاء وانتقلت صحائف أعمالهم إلى مجال التاريخ لتدرس ويعرف ماذا قدم كل واحد منهم للوطن وللبلاد والعباد.. فهل وفى العلامة السوسي بما انتدب إليه نفسه؟
               لقد عنّ لي هذا الخاطر وأنا أقرأ مقدمة كتاب معتقل الصحراء للعلامة السوسي في جزئه الثاني الذي صدر مؤخرا بعناية أبنائه وهمتهم لنشر تراث والدهم الغزير والثري، فما يفتأ العلامة السوسي الذي توفي منذ ما يقارب نصف قرن  يطل علينا بين الفينة والأخرى بكتاب جديد ونفس مختلف ونظرة متميزة لجانب من جوانب حياتنا وتاريخنا وتراثنا.. وها هو ذا يأتينا بتراجم طائفة من أعلام العمل الوطني ممن جمعه وإياهم المنفى القسري في منطقة أغبالو نكردوس بتافيلالت، فخلد بعمله واستبصاره التاريخي مرحلة من مراحل حياته هو والمنفيين المسجونين معه، وتاريخ بلدنا وجهاده لتحصيل استقلاله، لولا عمله هذا لكانت غيبا لا ترى إلا بعض ملامحه الباهتة من وراء سجف الاهمال..لقد سبق لنا أن قرأنا الجزء الأول من المعتقل، ورأينا من خلاله حياة الوطنيين وأعمالهم وما تميز به مجتمعهم الصغير، وكيف كانوا يتعاملون فيما بينهم، وكيف كانت علاقتهم مع السجان الفرنسي ومع سكان المنطقة.. كان الجزء الأول في الحقيقة استبصارا وتنبؤا بحال المجتمع المغربي بعد الاستقلال من خلال عرض ملامح الحياة الاجتماعية والسمات النفسية والمعرفية لجانب من نخبته العلمية والسياسية..ثم جاء الجزء الثاني ليجسد سمات كل فرد من هذه النخبة بلسانه يحكي مجريات حياته، ويتحدث عن عبرها وما يرجوه في حياته المستقبلية..وحينما نقرأ تلك التراجم وما وشاه بها المقدم المراجع الأستاذ عبد الوافي نجل المؤلف، نعرف كيف سارت حياة هذه النخبة وأين انتهى بها المطاف..وهل صدقت متمنياتها أم سقطت دون المدى ام انحرف بها المسار إلى مجالات أخرى سلبا أو إيجابا.. 
         إنه كتاب ثمين في تاريخ المغرب الحديث يضم حقائق ووقائع عجيبة تجعل دارسه ودارس الجزء الأول قبله بتمعن يكتشف التشابه الكبير بين بعض هذه الوقائع وما حدث بعد ذلك في العقود التالية لجمعه، خاصة بعد الاستقلال إلى زمن قريب..
إن مطالعة هذا الكتاب بتمعن تجيبنا على السؤال الذي طرحناه من قبل: نعم لقد وفى العلامة السوسي، ولم يبق رهين منطقته يؤرخ لها كما يعتقد كثير من الناس، بل كان همه التأريخ لوطنه ولبلاد الإسلام من خلال العناية بالتاريخ المحلي فالجهوي فالوطني..ولعل هذا الكتاب وهو لا يضم أي ترجمة سوسية يبرز هذا المنحى في فكر هذا الرجل العظيم الذي وهب نفسه لفقه الأجرومية ( الأجرومية كما هي قواعد فهم اللغة ومقاصدها وكذلك ترجمها الغربيون فهي عندهم القواعد العاصمة من الزلل Grammar )، أجرومية العمل الوطني وأجرومية المشروع الإصلاحي العظيم الذي لو تحقق للمغرب أن يفهمه ويعمل به لكان له شأن وأي شأن، شأن ماضيه التليد الذي كان فيه رسول الحضارة، وحامل مشعل التنوير الحق، ورائد الإنسانية المستمتعة بقيم العطاء والوفاء والتسامح والتفاهم.. ذلك المغرب الذي أمد أوربا بالمعرفة وفتح الباب أمام النور ليلج دروبها الملتوية الموغلة في التخلف والهمجية.. حتى صارت إلى ما نراه الآن من تقدم ورخاء..
            فهنيئا للعلامة السوسي ولأبنائه وقرائه ومحبيه هذا الإنجاز الجديد.. وهذا المولود السعيد الذي ندعو الله تعالى أن لا يجعله آخر القطر من يراع يده المعطاء المباركة، تلك اليد التي مازالت تبدع وتخاطب الأجيال على مر الزمان لتخبرها بما جمعت قريحة ربها من خبرات وأفكار ... ورحم الله العلامة محمد المنوني الذي علق على الضجة المثارة في أوائل العقد التاسع من القرن الماضي، عندما صدرت طائفة جديدة من كتب العلامة السوسي آنذاك ( المعتقل ج1، ذكريات، طاقة ريحان،رجالات العلم العربي، المدارس العتيقة،النور المبغي ..) وقد أثارت حنق من لا يحبون أن يذكر الرجل ولا فكره ولا تراثه - وهو المتشبث بدينه وعقيدته ووطنيته - فقال العلامة المنوني ساخرا منهم: " أبى العلامة المختار أن يموت فيريح هؤلاء القوم، فشأنه أن ينكد عليهم في كل وقت وحين.."
         رحم الله العلامة السوسي وجزى أنجاله على إخلاصهم وتفانيهم ووفائهم، في إخراج إنتاج والدهم، وقد عضدهم المحسنون من محبيه والمخلصين له، ليتتبعوا بدأب وصبر خطوط أجروميته الخالدة، فيما يلهث خَلف من وصفوه بفقيه الأجرومية وراء ما ترك لهم سلفهم من أوهام الوجاهة والرئاسة باذلين في سبيل ذلك ما تبقى لهم من كرامة وأنفة..(ولكل وجهة هو موليها..) والسلام عليكم ورحمة الله.
*********************


*************************
العنوان: معتقل الصحراء الجزء الثاني.
المؤلف : المؤرخ العلامة محمد المختار السوسي ( رضى الله)
الصفحات: 592 صفحة
هيأه وعلق عليه وقدمه ونشره: عبد الوافي بن محمد المختار السوسي ( نجل المؤلف)
الطبعة الأولى:  ذو الحجة 1432/ نونبر 2011
أنظر غلاف الكتاب وفهرس موضوعاته في هذا الرابـــــــــــــــــــط .( ملف pdf)