بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 22 سبتمبر 2012

الأزمنة العسيرة


قرأت بفضول ومتعة كبيرين كتابا صدر مؤخرا للكاتب رشيد العلوي الحسني بعنوان: "الأزمنة العسيرة" وقد أعجبت بالكتاب أيما إعجاب، وقرأته بتتبع، وذلك لعدة أسباب، هي:
- أن الكتاب يندرج ضمن السيرة، وتندمج فيه السيرة الذاتية للكاتب مع السيرة الغيرية لوالده المربي الفاضل والوطني الغيور مولاي الطيب العلوي رحمه الله المتوفى سنة 1965هـ، لذلك تغلب عليه سمة السرد المزين بقصائد الأشعار والحكايات الطريفة والوقائع المروية لأول مرة عن تاريخ المغرب.
- اندماج وقائع التاريخ الشخصي لبطل هذا الكتاب والتاريخ الوطني المغربي، فتاريخ مولاي الطيب هو تاريخ المغرب هو تاريخ حركة التعليم وتاريخ النضال الحقيقي والمزيف، تاريخ المناضلين المخلصين وتاريخ الانتهازيين..
- تتبع تطور المجتمع المغربي والتركيز على تصوير العسر الذي عاشه المغاربة، والمشاكل العويصة التي مروا منها، بما في ذلك المجاعات والأوبئة والتقتيل الذي تعرضوا له من المستعمرين.. وقد تقاطع ذلك مع التاريخ الشخصي لبطل النص وما لحقه من مصائب ومآس عظيمة.. وهذا كله لا ينبغي أن ينسى ولابد للمغاربة اجمعين أن يذكروا هذا الماضي الذي يبتعد عنا شيئا فشيئا وما جرى فيه حتى يعرفوا نعم الله بدوامها، وأن يعملوا ما امكنهم للحيلولة دون عودة تلك العسرة لا قدر الله.
- تصوير جوانب خفية لرجال مشهورين يذكرهم التاريخ بصفحات كثيرة، غير أن الكتاب إما يزيد صفحاتهم نصوعا وظهورا وغما يعرض لنا جوانب بئيسة من حياتهم حينما جعلوا أنفسهم سجناء أغراضهم ونزواتهم وربما أضر ذلك بالوطن كله..
- تتبع تنقل بطل النص في جهات المغرب تارة مهاجرا للعلم أو المعاش، وتارة مهجرا قسرا بسبب نشاطه النضالي، وهذا التنقل أكسبه الإحساس بتنوع المغرب وغنى ثقافته ولغاته، غير أن ذلك كله لم يمنعه مع التواصل مع الناس أينما حل وارتحل، بسبب أصله الشريف ( وللشرف عند المغاربة شأن) وبسبب قيامه بواجب التفقه والتفقيه في الدين، ثم بسبب غيرته على وطنه وعمله على استقلال البلاد وانقشاع ظلام الاستعمار عنها.
- تصوير الأزمة الشخصية لبطل النص مولاي الطيب ممثلة لأزمة المغاربة في بحثهم عن سبل الإصلاح والحفاظ على الخصوصية والهوية، ويظهر ذلك جليا في حيرة الشريف في طريقة تدريس ولده كاتب النص، فقد أرسله إلى القرويين التي قضى بها شهورا دون أن يستفيد شيئا، ثم ألحقه بالمدرسة الاستعمارية التي كان يكرهها، لأنه لم يجد البديل المامول، ثم اضطر اخيرا إلى سحبه منها بعد أن رأى أن هذا التعليم سيخرب كل جهوده في مكافحة الفكر التغريبي خاصة أن المهدد في تلك اللحظة ولده وفلذة كبده.
- تصوير تدبير بعض الناس لشؤون المغرب المستقل، فتحت شعار قطف ثمار النضال ضد الاستعمار أطلق هؤلاء أيديهم يفعلون ما يشاؤون معتقدين أن ما قاموا به في زمن الاحتلال يمنحهم الحق في التصرف وفق أهوائهم، ولا شك أن ما لحق بطل النص من إيذاء وإبعاد هو صورة مصغرة لما لحق كثيرين من جراء مواقفهم من المتسلطين، فصارت المكائد تحاك والمؤامرات تدبر، وأنتج ذلك إساءات ومضرات وصلت إلى علم الملك المجاهد محمد الخامس وقد ذكر العلامة محمد المختار السوسي أن الملك  رحمه الله كان يتتبع تلك الأحداث ويتأسف ويقول " ألهذا ناضلنا من أجل الاستقلال، ألهذا ضحيناـ حتى نتفرق ونتصارع.."
إن هذه السمات كلها جعلتني سعيدا بقراءة الكتاب وتتبع ما يحويه من وقائع وأحداث جسام، وقد أحسست أن الكتاب قريب مني وأني أعرف أبطاله من خلال ما قرأت من كتب التاريخ والمذكرات ومن خلال ما كان الوالد رحمه الله يحكيه لي عن حياته وحياة والده وعشيرته..
إن الكتاب تاريخ وطن في تاريخ رجل فرد يمثل روح المغربي الحر الأبيّ المعتز بدينه المشبع بتراثه وقيمه الأصيلة العارف بتراثه وتاريخ بلده المحب لملكه وللثوابت الشرعية لبلده.. إنه مثال المغربي الذي يحتاجه الوطن في كل وقت وفي وقتنا بالضبط، الرجل المخلص الغيور المتدين معاملة قبل أن يتدين تعبدا، الراغب في الخير لمجتمعه قبل نفسه وأهله.. ونحن مدينون لهذا الرجل وأمثاله من المجاهدين الصادقين الذين لبوا نداء الوطن وبذلوا دماءهم وأموالهم في سبيله غير عابئين بما لحقهم من أضرار..تقبل الله منهم، كما أننا مدينون لمن مازال حيا منهم يعمل بلا ضجيج ولا من ولا أذى معتقدا أن الجزاء الأوفى عند الله تعالى وليس عند احد من العباد..لهذا أختم بالجواب عن السؤال الذي طرحه الكاتب حينما استغرب إهمال الفقيه العالم الفاضل الأديب مولاي الطيب وإغفال تسمية إحدى المؤسسات التعليمية باسمه، فأشير إلى امرين:
- أن المشمول بعفو الله - بحوله وقوته - وأمثاله من المجاهدين الصادقين ليسوا في حاجة للتكريم لأن الله كرمهم بأن أقامهم في ما يحييهم بعد أن يموت الناس، فهم من جملة الشهداء بكفاحهم وإخلاصهم، والتكريم لا يرجع عليه بالنفع إلا بالدعاء والترحم، وإذا نسي فالله يتولاه، اما الذي يحتاج التكريم فهم الأحياء الذين ينبغي أن يتعظوا بما قضى فيه السابقون حياتهم وبذلوا فيه أوقاتهم حتى لقوا ربهم - إن شاء الله- راضين مرضيين.
- أن أفضل تكريم لهذا الرجل العظيم هو هذا الكتاب الذي عرفنا بأفضاله وأعماله وجهاده، وكيف كان مواطنا صالحا لا يعبد احدا من دون الله ولا يتولى إلا من تولاه الله، ولا يبذل وقته وماله إلا في سبيل المصلحة والنفع العام، ولعل الله تعالى قد اكرمه بأن بلّغ وُلْده ما يحبون وجعلهم خير خلف لخير سلف، وما هذا الكتاب إلا مبرة تذكر وتنشر وتنتشر فيها خياة الرجل وإن نسي او أقصي أو أبعد، فهو حي مذكور غير منكور، وما احوج المغاربة إلى امثال هذه الكتب، ولو أن كثيرين ممن عاشوا هذه المراحل كتبوا عنها وخلدوا لحظاتها لكان لنا تاريخ آخر ونظر آخر إلى كفاح الأجداد ونضالهم، وهذه هي المهمة العظيمة التي يجب أن يتصدى لها من يستطيع، لعل شباب اليوم يطالعون ما كان في الماضي ويستشفون منه ما ينفعهم ويستمدون منه ما ينيرون به السبيل حتى يعرفوا العدو من الصديق والمخلص من الانتهازي وحتى لا تتكرر الأخطاء..ولله الأمر من قبل ومن بعد.