بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 16 مايو 2013

انبعاث الجامع الكبير بتارودانت بحول الله.


محراب الجامع الكبير قبل الاحتراق الأخير
         أسبوع بعد المأساة.. بعد المصيبة، جاء الفرج وجاءت البشرى، أتت اليد الحانية المعطاء لتمسح عن الجفون ما وكف من دموعها، حزنا وكمدا على الجامع الكبير.. وعلى ما يعنيه الجامع الكبير من ذكر وعبادة وصلاة وقيام وتلاوة وتوبة وإنابة وإقبال على الله.. وما يدل عليه الجامع الكبير من ماض مجيد وحضارة تليدة وعلم أصيل وفكر ماجد..
            فالجامع الكبير رمز ارتباط المغاربة بدينهم، وشغفهم بمحبة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وكلفهم بكتاب الله تلاوة ومدارسة وتدبرا وتعلما، إنه رمز الوجدان والوجود، وعلامة الحياة والديمومة، فلا وجود للمغرب بعيدا عن الدين، ولا بقاء للوطن بلا إيمان..
            كان أخشى ما نخشاه أن يندثر همّ الجامع الكبير من النفوس، وأن يُنسى مع الأيام، ويصبح علامة على الإهمال، ويصبح منظر الخراب الذي خلفه الحريق مألوفا لدى الناس، ويتثاقل المكلفون بالإصلاح أو البناء في القيام بالواجب، وتطغى البيروقراطية على الموضوع كله، ولكن الله سلّم..

         سلّم الله الجامع الكبير من دوام الخراب بفضل المبادرة الملكية الميمونة التي أتت في إبّانها، لتمسح ما في النفوس من الأسى والحزن على ما وقع، ومن يرقّ لحال الجامع الكبير، ويسعى بحزم وإصرار لتعويضه عما لحقه من أضرار بليغة سوى الحضرة العلوية حضرة أمير المؤمنين.
           نعم لقد انبعث الأمل في نفوسنا، وشعرنا باسترداد ماضينا وذكرياته، وجامعنا وفضائله، وتاريخنا أعلامه ووقائعه، والحمد لله أن يومنا ابن أمسنا فلا قطيعة ولا انقطاع، فكما سارع الملك محمد الخامس رحمه الله إلى إصلاح الجامع الكبير عندما تداعت سقوفه وحيطانه، بعدما قام بزيارته وتفقد أحواله سنة 1364هـ، (أي قبل حوالي 70 سنة، انظر الملحق) فها هو حفيده الموفق بفضل الله يسير على نهجه الميمون، ويقتفي أثره المبارك، ويبادر إلى هذا الوجه الطيب من وجوه الخير والبر، ولو أن المصاب هذه المرة جلل والضـرر بليغ، والعمل المنتظر كبير، فالأمر يتعلق بإعادة هذه المعلمة الحضارية إلى ما كانت عليه، وما ذلك بعزيز على الهمّة العلوية الطّمّاحة الشمّاء المنيفة.


         وإن مما يثلج الصدر أن تكون الرعاية الملكية للمسجد شاملة لتحمل تكاليف الإصلاح والبناء في ظرف وجيز لا يزيد على السنتين، نسأل الله تعالى التوفيق والسداد والنجاح لهذا المشروع العظيم..
             وبعد فإن جلالة الملك قد قام بالواجب وأكثر.. في موضوع الجامع الكبير، وأراح نفوسنا مما كانت ترزح تحته من ألم ممضّ، ونحن واثقون أن الجامع الكبير سينهض من كبوته هذه، ونحن واثقون أن اليوم الذي سيعود فيه الجامع الكبير ليحتضن القائمين والساجدين، والتالين كتاب الله والذاكرين، والمعلمين والمتعلمين، قريب  إن شاء الله- يومٌ تستقيم فيه -من جديد - جدرانه، وترتفع سقوفه، وتتدلى ثرياته ومصابيحه، وتشمخ فيه صومعته، وتزدهي سواريه وأعمدته، وتتزين أرضيته وصحنه، وتترقرق مياه الحياة من نافورته، ويرتفع فيه النداء إلى رب البرية الغفور الودود الله أكبر الله أكبر..
      سيأتي بحمد الله هذا اليوم المنتظر قريبا بحول الله.. فماذا أعددنا له؟؟ هل كان الجامع الكبير سقوفا وحيطانا؟؟ أم كان أكثر من ذلك؟؟
        إن الجامع الكبير مؤسسة اجتماعية وعلمية وفكرية وتاريخية وثقافية، أفلا يستحق أن يخطط لوظائفه كما سيخطط لبنائه وإصلاحه؟؟ أفلا تكون هذه الفرصة السانحة المتاحة بالهمّة الملكية القعساء، مناسبة للتأمل في جملة أمور، حتى يكون الإصلاح شاملا ونافعا مثمرا. فالتصدي لإصلاح أو ترميم أو إعادة بناء الجامع الكبير تحد كبير، ليس من جهة إعادته إلى ما كان عليه، ولكن من جهة المواءمة في إصلاحه بين الحفاظ على ما كان أوإعادته بنفسه أو قريبا منه، تصميما وبناء وزخرفة، وبين تجديد وظيفته بإتقان بنائه وفق الضوابط الفقهية والضـرورات الوقتية، واسترجاع مكوناته المندثرة، والعمل على تثمينه ليصبح درة المدينة الثمينة، وجوهرتها الغالية، من خلال توسيع ما حواليه، وإعادته إلى وظيفته باعتباره مؤسسة علمية ثقافية واجتماعية، وذلك من خلال جملة ملاحظات، هي:
-       قبلة الجامع الكبير شديدة الانحراف نحو الجنوب، منذ بنائه في عهد السعديين، وانحرافها يزيد عن المقدار المقبول، ولاشك أن بُناته الأوائل وموسعيه تركوا القبلة على ما كان عليه في عهد المرابطين فبقي منحرفا إلى الجنوب، ( وكان هذا مجالا لدراسات وأبحاث ومؤلفات منها كتاب القبلة لصالح بن أبي صالح) فلابد إذن من دراسة إمكانية تصحيح القبلة، خاصة أن هناك مساحة خالية متاحة أمام الجامع كانت قبل مقبرة فأزيلت في الإصلاح الذي تم في سنوات الثمانين.

-       كانت هناك مدرسة ملحقة بالجامع الكبير، وقد خربت منذ أزمان فلماذا لا يتم إحياء هذه المدرسة، تجديدا لما كان عليه في العهود الغابرة، وحرصا على إحياء التعليم العتيق وانتفاع المجتمع به.
-       كان هناك كتاّب ملحق بالجامع الكبير بجوار الصومعة ثم خرب في سنوات الخمسين أو بعدها بقليل، وإمام المسجد الآن يدرّس الصبية في غرفة غير مناسبة في المدخل المقابل لحي سيدي حساين، فلماذا لا يتم التفكير في تخصيص مكان للتحفيظ مناسب ومزود بكل ما يحتاج إليه من مقاعد وتجهيزات..
-       كانت هناك خزانة قديمة بالجامع الكبير مشهورة وقف عليها السلاطين السعديون والعلويون كتبا نادرة ومطبوعات ثمينة في أول عهد المغرب بالطباعة، وقد اندثرت المكتبة وتشتت كتبها بين الخزانات العامة والخاصة، فهل يمكن إعادة إحيائها  لتكون منارة للعلم والمعرفة بالمدينة، وهل يمكن تخصيص مكان لها في جنبات الجامع.
-       كان الجامع الكبير مجالا للتعليم والدرس والمحاضرة، وكان يؤمه كبار العلماء الأعلام من سائر أنحاء المغرب بل من البلاد الإسلامية شرقا وجنوبا، فهل يمكن أن تجدد به هذه الدروس، ويلتفت سكان المدينة ممن يزعمون التعلق بالثقافة والفكر للإقبال عليها والانتفاع بها، ويتركوا الزهد في المعرفة بينما يعلنون بأفواههم محبة الجامع الكبير والتعلق بالجامع الكبير، أم أن الأمر متعلق بالجدران والسقوف والأبنية، وليس بما ستقوم به من وظائف ومهام.

        وأخيرا ها هو أمير المؤمنين جلالة الملك قد طمأن القلوب، وهدّأ الأفئدة بمبادرته الكريمة، فهل نكون في مستواها، ونجعل مبادرة إعادة بناء الجامع الكبير مناسبة للتفكير في واجبنا نحوه، وما الواجب نحو المسجد إلا عمارته بالصلاة والذكر والتلاوة والعلم والتعلم والاجتماع على الخير والتآلف على المحبة والوحدة الوطنية والتمسك بقيم الأمة وثوابتها، والابتعاد عن التفرق والتشـرذم والتضاغن..
           إن الاهتمام بالجامع الكبير ليس في التعبير عن الحزن والأسى أوالشكوى، فما وقع و قع، ومغاربة اليوم لهم من الدراية والمهارة ما يمكنهم من إعادة بناء ما تركه الأجداد- بل بأفضل مما كان- إن صحّت منهم العزيمة والنية وسلامة القصد، والبناء آت بحول الله، وسيعود الجامع أفضل مما كان، وإنما الاهتمام متحقق بتثمين هذا الصـرح الحضاري العظيم، واستغلاله في بعث تراثنا العريق وتمتين الارتباط بماضينا المشرق بما فيه من عزة ووحدة وتلاؤم ووئام، فيعود الجامع الكبير سامق البناء، مرتفع القباب، تصدح في جنباته أصوات المكبرين  الركع السجود، والتالين لكتاب الله، وتملأ رحابه بالظامئين إلى المعرفة المسارعين، إلى النهل من معينها الثرار، وتتردد في نواحيه دعوات الحامدين لله رب العالمين، الشاكرين نعمه الكثيرة وآلاءه العميمة، لهذا البلد الكريم ماضيا وحاضرا ومستقبلا بفضل الجبار العلي الكبير، وولي أمره الساهر على أمنه وأمانه الموفق إن- شاء الله دائما- بجميل أنعم ربه، وما الموفق إلا من وفقه الله.
ملحق:
فيديو للجامع الكبير بتارودانت بعد تجديده سنة 1953.
صور حفل افتتاح الجامع الكبير بعد إصلاحه في عهد الاستعمار.

هكذا أدركنا الصحن بأشجاره ونافورته وقد غير في الاصلاح الأخير سنة 2005
قام الملك محمد الخامس رحمه الله بتفقد الجامع الكبير بتارودانت سنة 1944م وأصدر أوامره الكريمة بترميمه، وقد صادف الانتهاء من الترميم الأزمة الوطنية أيام الفداء سنة 1954م وقد قام الفرنسيون بتدشين الجامع الكبير في هذه الفترة في غياب الملك المجاهد رحمه الله في منفاه، وترأس الحفل وزير الأوقاف في عهد بنعرفة الفقيه بوركبة المراكشي، وقد قاطع الرودانيون حفل التدشين ولم يحضره إلا قلة من الأعيان كما يظهر في الصورتين اللتين زودني بهما مشكورا الأستاذ الفاضل الكريم علي زكي المجاطي جزاه الله خيرا كثيرا.
من هم الموجودن في الصورة مع الفقيه بوركبة؟؟؟

ملاحظة: الصورالحديثة  الممتازة للجامع الكبير من موقع:
vacanceo.com


الأربعاء، 8 مايو 2013

آجرنا الله في الجامع الكبير




عبارة رددها كل من عرف تارودانت وجامعها العتيق البارحة في الأزقة والدور وكل مكان فيها، في المكالمات الهاتفية والشبكية في البريد الإلكتروني وكافة أشكال التواصل والاتصال، "احترق الجامع الكبير.."  ما أفظعه من خبر وما أهول وقعه على النفوس التي ألفت الجامع الكبير، والصلاة في الجامع الكبير، والمرور بجانب الجامع الكبير، والوقوف تحت ظل أسواره وبجانب صومعته، إن تارودانت هي الجامع الكبير، والجامع الكبير هو تارودانت، بتاريخها وتراثها وأدبها وفكرها وثقافتها، ورجالها ونسائها.. واخبارها وأحداثها....
صباح هذا اليوم فتحت صفحة الأخبار بأحد المواقع فلم أستطع أن أصدق ما رأته عيناي: الجامع الكبير بتارودانت احترق بشكل كامل.. يا لله ما هذه المصيبة؟ كيف حدث هذا؟ ماذا وقع؟ كنت ما بين مصدق ومكذب، لابد أن هناك غلطا، كيف يحترق الجامع الكبير وهل هو علبة ورق؟ غير أن الصور قطعت الشك باليقين، وبدا لي الجامع الكبير الذي أعرفه وقد صار رمادا وارتفعت أعمدة الدخان من جوانبه إلى عنان السماء.. لقد صار رمادا.. رمادا...

إنها صدمة وأي صدمة تلك التي يشعر بها من يعرف هذا الصرح العظيم، الذي لم تحترق أخشابه وأعمدته وسقوفه وسواريه، فقط وإنما احترقت معها ذكريات الصبا وأيام الطفولة ( نفحات الشباب).. فما من ناشئ في تارودانت إلا وتذكر أيام الجامع الكبير الجميلة.. تذكر الصلاة والذكر، تذكر القيام والصيام، تذكر مجالس الوعظ والتوجيه، وكراسي العلم والتدريس، تذكر ما رأته الأعين وشهدته النفوس منذ عقود وما حفظته الذاكرة وسوّده العلماء والمؤرخون في طروسهم عن قرون مضت، كان فيها هذا الجامع محور المدينة، ومجتمع أرباب العلوم والفنون، وأصحاب الرئاسة والسلطة، ومقر قرارات الحرب والسلم والصلح والبيعة..
هل يعقل أن يحترق الجامع الكبير الذي عايش قوة محمد الغالب ومحمد الشيخ وسطوة المنصور، وثورة يحيى الحاحي ونفوذ أبي حسون السملالي، وانتصارات المولى الرشيد الذي غزا مدينة إيليغ فهدمها وحمل مصاريع أبوابها لتكون مصاريع أبواب الجامع الكبير.. وليترك بصمته الخالدة في بعض قبابها حينما قام بإصلاحها وسجل في جزء من جبصها تاريخ الإصلاح والقائم به من المعلمين.
هل يعقل أن يحترق الجامع الكبير الذي عاصر ثورة محمد العالم  والمولى الحران وابن محرز..وكل مغامرات طلاب السلطة من فاقدي الشرعية ومفارقي الشرع..
هل يعقل أن يحترق الجامع الكبير.. الذي شهد خطب ابن الوقاد ومجالس أبي مهدي عيسى السكتاني ودروس التمنارتي والتهالي والهوزالي.. وامزارگو والجشتيمي والشرادي والقاضي الرسموكي... ودروس أفواج طلبة المعهد الروداني في سنواته الأولى قبل بناء مقره..
هل يمكن أن يحترق الجامع الكبير مجلى أساطين العلم ومجر عواليهم، وموئل طلاب الفكر ووراد الفهم، فكم مسائل شرحت في رحابه، وكم من قضايا أثيرت في جنباته، وكم من كتب تليت في أنحائه، وكم تلاوات تليت في قبابه، وكم أئمة قاموا في محرابه، وكم جباه سجدت على أرضه؟ وكم دموع إنابة وكفت في فجره وعشائه؟ وكم من أذكار في ظهره وعصره؟ وكم من أحزاب قرئت في صبحه ومغربه؟ وكم أجيال تتالت في إعماره؟ وكم من أنفس تمتعت بشميمه؟

الجامع الكبير ذلك الصرح الممرد من طهارة العقيدة السمحة وعبق التاريخ، المضمخ نسيمه بمسك التلاوات تشدو بها حناجر القراء الصادحين.. وحلاوة الأمداح في جناب النبي الأمين صلى الله عليه وسلم.. الجامع الكبير المتميز بهدوئه وسكونه وسط ضجة الحياة وضجيجها.. إنه إحدى أطهر البقاع في هذه المدينة الهادئة الهانئة.. صار رمادا ...لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
كان الجامع الكبير صرحا عتيدا من صروح بلدنا الحبيب، كنت أمر بجواره وبجوار صومعته، في امتدادهما في السماء وخلودهما على الأيام، فأتذكر قصيدة ابن خفاجة في وصف الجبل، التي يقول فيها: ( وقد حورتها لتناسب الجامع الكبير وليراجع الأصل في ديوان الشاعر.)

وَأَرْعَنْ    طمّاح    الذؤابة       باذخ

يطاول   أعنان    السماء    بغارب

يسد  مهب  الريح  عن  كل    وجهة

ويزحم    ليلا    شهبه      بالمناكب

وقــور   على   مرّ الليــالي  كأنه

طوال  الدهور    مفكر  في     العواقب

يلوث   عليه   الليل   سود   عمائم

لها من وميض البرق  حمر    ذوائب

اصخت  اليه  وهو  اخرس  صامت

فحدثني   ليل   السـرى      بالعجائب

وقال  إلى  كم  كنت  ملجأ زاهد

وموطن     أواه     تبتل        تائب

وكم  مر  بي  من  مدلج     ومؤوب

وقال  بظلي   من   مطي     وراكب

فما كان إلا  أن  طوتهم  يد    الردى

وطارت  بهم  ريح  النوى   والنوائب

فما خفق  أيكي  غير  رجفة    أضلع

ولا نوح  وُرقي  غير  صرخة    نادب

وما  غيض  السلوان  دمعي     وإنما

نزفت دموعي  في  فراق  الصواحب

فحتى  متى  أبقى  ويظعن    صاحب

أودع   منه   راحلا    غير      آيب

وحتى متى  أرعى  الكواكب    ساهرا

فمن  طالع  أخرى  الليالي    وغارب

فرحماك  يا  مولاي   دعوة   ضارع

يمد   الى   نعماك   راحة     راغب

فاسمعني  من  وعظه   كل     عبرة

يترجمها   عنه    لسان      التجارب

فسلى  بما  أبكى  وسرى  بما  شجا

وكان على عهد السـرى خير صاحب

وقلت   وقد   نكبت   عنه      لطية

سلام   فانا   من   مقيم      وذاهب





حينما قرأت الخبر جلست حزينا كئيبا يلفني شعور بالضياع.. كمن فقد فجأة كل عزيز عليه نسأل الله اللطف والسلامة- تذكرت الجامع الكبير الذي كان أول ما لفت نظري وأنا طفل صغير حديث عهد بمدينة تارودانت، وقد أسكننا الوالد رحمه الله المنتقل آنذاك- من مركز إيغرم بقمة الأطلس الصغير إلى تارودانت موظفا بمحكمة السدد بها (المحكمة المركزية ثم المحكمة الابتدائية حاليا) بحي سيدي حساين، كان عمري حوالي 6 سنوات، في مغرب اليوم الموالي لقدومنا رافقني الوالد رحمه الله إلى الجامع الكبير، وقد لبست أحسن ما لدي من ثياب وذهبت لصلاة المغرب، صلينا المغرب وأخذني الوالد إلى جانبه ليجلس في محراب المسجد مع طائفة من الفقهاء لتلاوة الحزب المسائي، كنت أستمع وانظر إلى هذا المنظر الذي لم أره من قبل، وقد خلبت لبي أصوات القراء، وأطارت صوابي زخارف المسجد في الخشب والجبص، في الجدران والسقوف، وكانت تلاوة الحزب آنذاك تبث على الهواء إلى خارج المسجد انطلاقا من مكبرات الصوت الجهيرة الموضوعة في أعلى الصومعة المرتفعة إلى السماء.
رجعت إلى المنزل، فاستقبلتني الوالدة فرحة مسرورة وقد استمعت إلى تلاوة الحزب وهي في المنزل القريب من المسجد، منذ هذه اللحظة بدأت علاقتي بالجامع الكبير، وقد ألزمني الوالد رحمه الله أن أذهب كل يوم لتلاوة الحزب الراتب حاملا مصحفي بين يدي،

ثم مر الزمان سريعا وازدادت صلاتنا بالجامع الكبير متانة، وكيف لا وقد كان مسجدنا الدائم لأداء الصلاة، بعد أن نقلنا الوالد رحمه الله إلى منزلنا الجديد الذي شيده بحي باب الزركان، في الدرب الواقع أمام مسجد أبي ثابت الأثري المندثر الذي تحول إلى ضريح يزار ثم صار أخيرا أثرا بعد عين.

ومضت سنوات تعرفت خلالها على أفواج من حفاظ القرآن الكريم المداومين على تلاوته في صباحات الأيام ومساءاتها، حينما كانت جنبات الجامع الكبير تهتز بتلاواتهم الرخيمة المؤثرة التي تبرز حفظهم المتقن، وكثير منهم سقطت أسماؤهم من الذاكرة  وأذكر منهم السيد الحسين والسيد بلعيد الخيّاطان، وكان الأخير منهما يثير اهتمامي بتلاوة الحزب وهو مطبق أسنانه بعضها على بعض..
كما عرفت في الجامع الكبير بعض زواره الذين كانت تجللهم الغرابة، مثل شيخ كبير السن أسمر البشرة نجده في الجامع عندما نذهب إليه، ولا يخرج إلا بعد انصرافنا، وكان لا يسجد عند سجدة التلاوة، واذكر أن بعض أقراني اخبرني انه كان من المقاومين وأنه تعرض للتعذيب من المستعمرين حتى عجز عن السجود، فلذلك كان يصلي دائما قاعدا.. كنا نراه دائما بالمسجد حتى توفي في زمن لا أذكره الآن.
كما عرفت في الجامع الكبير بعض القيمين بشؤونه مثل الفقيه الحاج محمد المنتاگي إمامه الراتب وخطيب الجمعة ، وابنه الذي كان يجلس ليقرأ معنا الحزب كل مساء وعوض أن يشتغل بالتلاوة كان يشوش علينا بما يضحكنا به من نكات ونظرات والده الحادة ترمقه مهددة متوعدة، ومؤذن المسجد السيد أشهبون والد أستاذي في التربية الإسلامية بثانوية ابن سليمان الروداني، والذي  كان دائم المراقبة لنا يخاصمنا عند أدنى حركة..ويراقبنا ويتمعن في أحوالنا إبان تلاوة الحزب الراتب، وأذكر السيد الرحوم ساعي البريد الذي كان يتلو حديث الإنصات أيام الجمع، واذكر مؤذنين آخرين كان لكل منهم نبرته الخاصة، وصوته العذب القوي، أتذكر منهم المؤذن المرحوم "الفيو" الذي كان يهز أركان المسجد بأذانه وأذكاره خاصة في رمضان بصوته المزلزل كالرعد، وأتذكر أنه ما يكاد ينتهي من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في فجر كل رمضان أذن فيه إلا وأتبعه بقوله تعالى: (وقل الحمد الله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وكبّره تكبيرا) فيتبعه بلا فاصل بالأذان.
 كما كان بعض هؤلاء المؤذنين يحملون مفاتيح ضخمة لأبواب المسجد ولا يترددون في رميها على كل من يحدث ضجيجا أو فوضى من الأطفال. وكان يروقنا أن نبقى بالمسجد بين الظهرين حيث الهدوء والسكينة، فنجلس إلى فسقية الماء في فنائه وحولها بعض أشجار الحوامض، نتلهى باقتطاف ثمارها غير الصالحة للأكل وبمراقبة النحل والطيور التي تأتي للشرب في مياه المسجد.


وكان ليوم الجمعة وقع خاص في نفوسنا، ففي هذا اليوم كان يمتلئ المسجد بطلبة معهد محمد الخامس الذين كان يسمح لهم بالخروج في هذا اليوم فتمتلئ بهم جنبات المسجد، يجلسون فيه للمراجعة والاستذكار، وكان يروق لي أن أراهم يجلسون زرافات ووحدانا في هدوء وسكون يراجعون دروسهم ويقلّبون أوراقهم وكتبهم، فكان منظرهم من كبار المحفزات لمن كان يرغب في الدراسة والتعلم.
كما كان لرمضان طعم خاص بالجامع الكبير،  فبمجرد أن ينفضّ الناس من صلاة الظهر كان الفقيه الأستاذ سيدي محمد الغالب يأتي متأبطا جزءا من صحيح الإمام البخاري ليعتلي كرسي الدروس وينطلق بسلاسة ومهارة في سرد الأحاديث وشرحها وبيان ما فيها من فوائد لغوية وفقهية وعقدية، ونحن مأخوذون بفصاحته وعلمه وسعة معارفه، وكان أكثر ما يثير اهتمامنا سوقه لبعض القصص والحكايات أثناء حديثه، فنبقى مشدوهين متتبعين ما يقولون متلذذين بما فيه من حكمة وبلاغة.. وكانت هذه الدروس يومية في رمضان، وكنا نتتبعها ونحن في عطلاتنا المدرسية الصيفية، نسعد بما فيها من فوائد وبما لصاحبها من فصاحة وذلاقة لسان حفظه الله وبارك في عمره، ثم إن تلك الدروس الرمضانية اليومية صارت بعد زمن أسبوعية ثم انقطعت بعد ذلك. 
انتقلت إلى الثانوي، وإلى السنة الأخيرة منه، فصار الجامع الكبير مكان الهدوء والسكينة أفضل محل للمراجعة والاستعداد للامتحان، كنت آوي إليه بين الظهرين مع زميلي في الدراسة "المحجوب السگراني" فنجلس الساعات الطوال ننظر في الكتب ونراجع الدروس وربما بقينا هناك حتى المغرب لا يزعجنا أحد، ولا يكدر صفو سكينتنا شيء.. كان الجامع الكبير قد تغير، فقد مسته يد ظنت أنها أصلحته فلم تزد إلا أن طمست بعض نقوشه وضخّمت سواريه، وما لبث أن غزت الحفر أرضه، ولولا تدخل بعض الغُير من العارفين لعدا الطمس على صومعته التي أراد صاحب المشروع أن يطمس زخارفها وزليجها الأثري ولكن الله سلم، كما عزل إمامه المنتاگي نتيجة ما شهده آخر العقد الثامن من القرن الماضي من فتن، ونتج عن ذلك وقوع بعض الاضطراب في سير المسجد، حتى أوتي إليه بإمامه الحالي الحاج محمد بن يحيى فبقي فيه مجاهدا حتى يوم الحريق المشؤوم ..


ثم جاء عهد الجامعة والدراسة بها وتعميق المعرفة، فلم تنقطع الصلة بالجامع الكبير، وكيف لا وقد وجدته في المصادر والمراجع مذكورا بمن كان به من العلماء، ومن درس به من الفقهاء وما كان في خزانته من الكتب والمخطوطات.. وجدته في الفوائد الجمة لأبي زيد عبد الرحمان التمنارتي، وفي وفيات الرسموكي، وفي كتب العلامة محمد المختار السوسي، وفي كتاب الحركة الفكرية على عهد السعديين لمحمد حجي وفي غيرها من الكتب والدراسات والأبحاث، فرأيتني وأنا الذي عرفت الجامع الكبير بسقوفه وأعمدته وحيطانه وفنائه وصومعته، ازداد  علما بتاريخه وماضي رجالاته وأثره في الفكر والثقافة المغربية والإسلامية عامة، وما مر عليه من أهوال وأدوار كادت تقضي عليه، غير أن ذلك لم يقدر له إلا هذا اليوم ولله الأمر من قبل ومن بعد.. فصرت إذا دخلت الجامع الكبير تخيلت مجلس العلامة التمنارتي وقد تحلق حوله الطلاب يأخذون عنه، وقد حضر درس ختمه لبعض الفنون، بعض فقهاء بلاد السودان المغربي، فأتم الدرس ودعا للجميع وختم مجلسه بالإجازة العامة لكل من حضر من طلبته وابنيه ..وتخيلت الإمام ابن الوقاد وهو يقف على المنبر خطيبا مصقعا، يدعو إلى مكارم الأخلاق وينبه على مزالق الأنفس والقلوب.. وتخيلت أبا مهدي عيسى السكتاني ترد عليه الفتاوى والنوازل فيجيب عنها متانيا باحثا منقبا..

صرت أرى في كل ركن من أركان الجامع الكبير جزءا من تاريخه، وطرفا من أحداثه، وبعضا من مجريات الليالي والأيام، وربما وقفت لأضع يدي على أبوابه أو جدرانه أو صومعته لعلي أشعر شعور من كانوا هنا قبلنا ومن مروا بالجامع أو أموه للصلاة والذكر والعبادة أو للدراسة والتعلم، ولسان حالي يردد قول الشاعر:
         أَمُـرُّ عَلَـى الدِّيَـارِ دِيَـارِ لَيْلَــى         أُقَبِّــلُ ذَا الجـِدَارَا وَذَا الجــِدَارَا
        وَمَـا حُـبُّ الدِّيَـارِ شَغَفْـنَ قَلْبِـي       ولَكِـنْ حُـبُّ مَنْ سَكَـنَ الدِّيَـارَا
ثم أُغلِق الجامع الكبير مدة نافت على السنتين للإصلاح، وحيل بيننا وبين زيارته، وصرنا نمر جنبه ولا نستطيع أن ندخل إليه ليحتضننا ويضمنا إليه كما عهدناه دائما كالأم الرؤوم أو الأب الحنون، وطالت المدة إلى أن جاء وقت الفرج وانتهت الأشغال وعادت المسجد إلى سابق عهد من العمارة بالصلاة والذكر والعبادات.. فصار بهي الشكل جميل المظهر متجدد الشباب، لولا ما ظهر من آثار الاصلاح غير المتقن في بعض جنباته مع ما كلف من أموال وجهود..


تذكرت وأنا أنظر إلى صور الجامع المحترق، ما قرأته في وثائق الأحباس عن المرصود له من جزيل الأوقاف، ومصاريف الإصلاح، وما وقع فيه في بعض الأعصر من تشقق للسقوف وسقوط للجدران، وما بذل في سبيل الحفاظ عليه من جهود وما اعتور بعضها من خلل وهفوات.. تذكرت كل ذلك وأنا أنظر إلى تلك الصور المحزنة..
إن احتراق الجامع الكبير بهذا الشكل المهول مصيبة عظيمة لتارودانت وتاريخها وفكرها وثقافتها وأهلها، وإنها لرسالة صامتة إلى كل مقيم بتارودانت وإلى كل سوسي وإلى كل مغربي وإلى كل مسلم.. رسالة صامتة إلى الجميع، فلنتاملها ولنستمع إليها، ولنتحسس ما فيها من عبر وعظات، بعيدا عن كل جعجعة لا طحن وراءها.. ففي ما وقع ألف عبرة وعظة ( لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.)
وكأنني بالجامع الكبير يخاطبنا جميعا، ليقول:
 " أهذا ما استحقه منكم يا بني رودانة؟ أهكذا أعامل وقد جلل الشيب هامتي؟ ورمتني صوارف الأيام بنبلها؟ أهكذا تصان شيبتي بينكم؟ أهكذا الحرص والوفاء؟؟ أهكذا يصان تراث الأجداد عندكم؟؟ أهكذا تعامل وديعة الأسلاف لديكم؟؟ أهذه قيمتي ومكانتي فيكم؟؟ فوداعا وداعا يا من لا تهتمون بماضيكم.. وداعا يا من تنسون تراثكم.. وداعا يا من لا تنظرون إلى مجد ماضيكم إلا لتتفاخروا وتتنفجوا به .. وإلا لتتكسبوا به ثمنا قليلا أو جاها متوهما، لا لتأخذوا منه ما يحيي حاضركم، ويغرس بذور النهوض والتقدم في مستقبلكم.
وداعا وداعا.. لألحق بمن أشادوا صرحي بسواعدهم..وملؤوا جنباتي بصلواتهم.. وعمروا فنائي بدروسهم.. وتزودوا مني قوة ومنعة، وصبرا وعزا، ومجدا وحضارة حملوها إلى جهات الأرض، دعوة بالتي هي أحسن، ومعاملة بالتي هي أفضل..فنشروا العلم والمعرفة، وبثوا الطهر والعفاف وأشادوا المجد والحضارة، وتركوا لكم من الأخبار ما يحيي أفئدتكم، ومن الآثار ما يشحذ هممكم.
وداعا وداعا... ولأترككم لأنظر ما تفعلون بعدي.. أتشمرون على سواعدكم لتقتدوا بأسلافكم، فتشيدوا ما تهدم من أركاني، وترفعون ما تطامن من قبابي، وتجددوا عهدي الغابر ومجدي الداثر.. فتعمرونني بالصلاة والقيام والاذكار والدروس والمواعظ.. لتأخذون من كل ذلك زادا لمراجعة أنفسكم وتطوير حياتكم، وتحسين أحوال دنياكم، والإخلاص لوطنكم وأولياء أموركم، وصيانة وحدتكم، وجعل ذلك كله وسيلة لتشييد منازلكم في الأخرة، باليقين في العمل والإخلاص في القصد، والرغبة في ما عند الله.. فتعود مدينتكم مدينة العلم والدين، وموطن المعرفة والفكر، ومحل العلماء المؤلفين، والفقهاء المحدثين... أم تكتفون بالتباكي على ما كان من أمري .. والتخاصم حولي.. والتنافر بسبب ما وقع لي..؟؟؟ وتعودون بعد أيام لنسيان ما حدث لي، لتشتغلوا بشؤونكم اليومية، ومشاغلكم  الوقتية، لا يهمكم من أمركم إلا دنيا تصيبونها، أو زاد تتقوتون به، أو سقف جديد تسكنونه، أو طريف محدث تتلهون به، فتعرضون على المعارف والعلوم، والأخلاق والخصال الحسنة، وقد نسيتم ما كان عليه أسلافكم من التشبث بالدين، والإقبال على العلم، والاعتزاز بتحصيل المعرفة، واتباع العلماء والتأسي بهم في كل شاذة وفادة.. فإن عدتم كذلك فأنا أقول لكم أنه لا خير فيكم، ولا صلاح يرجى منكم، ولا فائدة لكم في جامع جديد، فالمسجد والجامع بعمارته، وبإقبال أهله على صلاته وعبادته وعلمه ووعظه وذكره.. وجعل ذلك عماد المعاملة الحسنة، والخلق الطيب، والخصال الجميلة، فوداعا أيها الرودانيون وداعا...."

أما أنا فلم أحر جوابا، إلا أن أقتبس أبياتا للعلامة الأديب القاضي أحمد سكيرج حينما حل بتارودانت في العقد الرابع من القرن العشرين ووجد الجامع الكبير مشوش الأركان، قد درست ملامحه وأشرف على الخراب، فتكدر من ذلك خاطره كما هو حالنا الآن- فقال يشكو حاله إلى سلطان زمانه، الملك محمد الخامس رحمه الله سنة1356هـ/ 1936م:
                  وَدَخَلْتُ جَامِعَهَا الكَبِيرَ فَهَالَنِي     لَمَّا رَأَيْتُ دَعَائِمَ الحِيطَانِ
                 وَتَشَابُكَ الخَشَبِ الَّتِي بِسُقُوفِهِ      وَشُقُوقَهُ مِنْ سَائِرِ الأَرْكَانِ
                  قَدْ غَيَّرَتْهُ يَــــدٌ تَظُـنُّ بِأَنَّهَا       قَدْ أَصْلَحَتْ مَا فِيهِ مِنْ بُنْيَانِ
                 يَالَيْتَهَا هَدَمَتْهُ حَتَّى لَمْ يُضَـعْ         مَالٌ بِهِ صَرَفَتْهُ فِي خُسْرَانِ
                 لَا سِيَمَا وَقَدِ اسْتَحَالَ لِصُورَةٍ         شَوْهَاءَ بَعْدَ جَمَالِهَا الفَتَّانِ
                 لَا لَا أَرَى أَحَدًا يَرِقُّ لِحَـــالِهِ         فِي حَالِهِ الحَالِي سِوَى السُّلْطَانِ
                مَنْ مُبَلِّغٌ لِلْحَضـْرَةِ العَلَوِيَّةِ الـ       ـشَّمَّاءِ حَالَ المَسْجِدِ الرُّودَانِي
               فَقَدِ اسْتَحَالَ لِحَالَةٍ يُرْثَى لَهَـــا        مِنْ بَعْدِ مَا قَدْ كَانَ فِي اسْتِحْسَان
هكذا نقتبس من العلامة سكيرج، لنقول بعد هذا الحدث الجلل، ولا راد لقضاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، رافعين شكوانا إلى ملك البلاد محمد السادس حفظه الله:
                  مَنْ مُبَلِّغٌ لِلْحَضـْرَةِ العَلَوِيَّةِ الـ       ـشَّمَّاءِ حَالَ المَسْجِدِ الرُّودَانِي
                    فَقَــدِ اسْتَحَالَ لِحَالَةٍ يُرْثَى لَهَا      مِنْ بَعْدِ مَا قَدْ كَانَ فِي اسْتِحْسَان


وإذا كان ما يمكن أن يحمد الله عليه في هذا الحدث الجلل، فهو حفظ الله تعالى أرواح المصلين، وصيانته لنفوس الناس، فلو وقع هذا الحدث - لاقدر الله- يوم جمعة أو وسط النهار لكان المصاب جللا ولكن الله سلم، ولكن الله سلم، والحمد لله على كل حال، والأمر لله من قبل ومن بعد، والرجاء في الله أن يعود الجامع الكبير كما كان بل أفضل مما كان، ببناء جديد، يحافظ فيه قدر الإمكان على ما كان عليه من تصميم فريد وجمال أخاذ، مع الأخذ بعين الاعتبار أداء وظائفه المختلفة، ومن أهم ما ينبغي أن يلتفت إليه تصحيح قبلته المنحرفة بأزيد من 30 درجة إلى الجنوب، ورفع مستواه على مستوى الأزقة المحيطة به حتى يعلوها بمسافة مناسبة تحفظه من اللإغراق بالمياه كما وقع أخيرا، وتوسيعه إلى الجهة الجنوبية الخالية التي كانت في الأصل مقبرة، وإضافة البقعة الفارغة في غربه والمشغولة بالأشجار لتكون مدرسة علمية أو قرآنية..
إن إعادة الجامع الكبير إلى سابق عهده رهين بالمواءمة بين الجميل والنافع وبين الأثري والعصري، ليعود مسجدنا الجامع للقيام بمهامه بفتح أبوابه ليستقبل محبيه من المؤمنين القانتين الساجدين الذاكرين، التالين لكتاب الله تعالى، الصابرين المحتسبين على ما أصابهم، المرددين دائما وأبدا حال كربهم: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وليعود الأطفال إلى المشي في فنائه، ولينطلق الأذان من مكبراته، مدويا بكلمة التوحيد، ولتحلق أسراب الحمام في فنائه، وتتراقص المياه في نافورته، و النحلات تطير حولها مرتشفة من مياهها العذبة النميرة، بينما تمرر أصابع الشيوخ الذاكرين حبات السبحات وهم ينتظرون حلول وقت الصلاة..وتعود تارودانت مزهوة بجامعها الكبير الناهض من ألمه الممض بعزيمة صلبة تماثل عزيمة المغاربة في تمسكهم بدينهم وإيمانهم وتوحيدهم لرب الأرض والسماوات العلي القدير ذي الملك والملكوت.






الخميس، 2 مايو 2013

الثريدة المناغية للعصيدة ....للعلامة محمد المختار السوسي



صدر أخيرا كتاب"الثريدة المناغية للعصيدة.." وهو مؤلف قيم للعلامة محمد المختار السوسي رحمه الله تعالى، ونشر بإشراف ولد المؤلف البار عبد الوافي رضى الله السوسي، وهذا الكتاب من أنماط التأليف الطريف المتعلق بالأغذية والأطعمة، ومن المعلوم أن أدباء العربية قد تفننوا في الكتابة في الموضوع وذهبوا في ذلك مذاهب شتى تظرفا أو تفكها أو إحماضا وتنذرا وتخفيفا على النفس من صرامة الجد..
ومن أبرز الادباء الذين تحدثوا قديما - عن المآكل المسعودي والجاحظ.. وغيرهم، أما في العصر الحديث فنجد أحمد آمين وزكي مبارك و محمود علي قراعة، قد تساجلوا في المجلات المصرية كالرسالة، أوائل القرن العشرين حول علاقة الأدب بالطعام، والصلة بين أدب الروح وأدب المعدة..( انظر المعارك الأدبية لأنور الجندي، ص:248 مكتبة النجلو مصرية1983)
وإذا كان الأدباء قد ذهبوا مذاهب شتى في ذكر أفخر أنواع المآكل وأفخم أجناس الأطعمة، فإن العلامة السوسي المنفي إلى بادية إلغ القاحلة التي لا تفي لأهلها إلا بوجبة طعام واحدة في اليوم- نظم قصيدة عصماء عن العصيدة الساذجة، التي اشتهرت بكونها طعام الفقراء والصوفية وذوي الحاجة، إلا أن السوسي مدحها أيام الحرب العالمية الثانية أيام الخصاص والقلة... ثم أردف القصيدة بشرح يوضح معاني ألفاظها ومقاصد عباراتها بإيجاز واختصار.. غير أن العصيدة التي ذكرها السوسي واشتغل بوصفها ووصف تناولها في 74 بيتا، لم تكن من العصائد الساذجة الدالة على الفقر والحاجة في عصره، بل هي من أرقى العصائد خاصة أنها محضرة من أجود أنواع الذرة التي طال وضعها على النار حتى استوت أكلة شهية لذيذة، وزادها لذة كون السمن المذاب إدامها، وأكلها مخلوطة باللبن،  وقد قال عن القصيدة والشرح معا:
" للأدباء مسابقات في ميادين شتى يطلقون فيها أفراسهم ويفجرون فيها قرائحهم ، قصد إطالة نفس الأدب في كل جهة ولإيجاد المتعة للنفس الأدبية أينما كانت متوجهة فلذلك كانت لهم الموائد الحافلة والمطاعم المتنوعة حلبات أنضوا في أوصافها المتنوعة قوافي، وأرسلوا فيها عيون الخيالات الشتى .فمن قرأ كتب الأدب للمتقدمين يجد في اليتيمة للثعالبي وفي مروج الذهب للمسعودي وفي غيرها قطعا أو قصائد كبيرة في وصف أنواع المأكولات أو المشروبات،  فذلك ما حدا بي إلى وصف العصيدة."
ومطلع القصيدة:
لمـــن جفنـة قــد أقبلــت تتألـق***تـــلوح بـــلألاء العصيـــدة يبـــرق

مسنمــــــة حتـى كــأن سنامهـا***شماريـخ طــود لم يكــد يتسلــــق

وقد فغمت منها الخياشيم نكهة***تطيـب بهـا كـل النواحي وتعبــق

أهذا أريج المسـك أن نفـح روضـه***أزاهيــرها تــحت الصبــا تتفتــق

وعهدي بأنفي ليـس يغلـط شمّـه***فيــا طالمــا شـــم البعيـد فيصــدق

ألم ترهـا كالثغـر أشنـب بـاسمـا***متــى جـال فيهــا غرثـان يشهـق

لها قمـة في وسطهـا حـوض زبـدة***(كجــابية الشيـخ العراقي تفهق)

والقصيدة تبرز جانبين من نفسية العلامة السوسي:
-     أولهما: جانب الفكاهة والأريحية، فلم يكن فقيها جامدا بل أديبا أريحيا تطربه الكلمة المبدعة وتعجبه الطرفة الحكيمة دون إسفاف ولا ميع، وقد عرف ذلك منه كل من درس عليه بل كل من عرفه أو طالع كتبه الكثيرة المتنوعة.
-     تواضعه وإخلاصه لأصله ونشأته البدوية، فلم يتكبر على أهله ولم يتنفج حتى عندما بلغ أعلى مراتب الجاه والسلطة والمكانة العليّة لدى العامة والخاصة، فقد بقي المختار المتواضع الذي يعرف مقدار نفسه ويتطامن لربه وعباده، ولعل أدل دليل أن العصيدة ظلت طعامه المفضل والدائم إلا أن يكون هناك ضيوف من الخاصة- في بيته مدة وزارته.. بل إنه عُيّر بذلك، فقد حدثني أحد المطلعين من أصدقاء الوالد رحمه الله، أن بعض مجالس الحكومة الأولى بعد الاستقلال خصص لمناقشة أجور الوزراء، فاقترح أن تكون 5000 درهم وهو مبلغ كبير جدا آنذاك- فتدخل العلامة السوسي، مطالبا بتخفيض المبلغ إلى أقل من النصف، لأن الدولة في بدايات التأسيس وينبغي للوزراء أن يكونوا أسوة لباقي موظفي الدولة في الاقتصاد والتدبير والقناعة، حتى تنهض الدولة وتتقوى، فما كان من بعض الحاضرين إلا أن تهانفوا في ما بينهم مستنكرين قائلين: "ما لهذا البدوي وللفلوس، إنما شأنه أن يأكل العصيدة وينام.."
وقد قدم لهذا التأليف الطريف الأستاذ الدكتور العلامة اليزيد الراضي، فأحسن التقديم وكيف لا وإنما يعرف الفضل لأهله ذووه، فهو أديب شاعر متخصص في الأدب المغربي عموما، وفي الأدب السوسي بوجه خاص، مطّلع على أسراره وخباياه، مقدّر لعمل الأدباء والعلماء في تأليفهم وإبداعاتهم، وقد أبدى وأعاد في تحليل القصيدة وشرحها، وبيان سماتهما وخصائصهما المضمونية والفنية، قال يصف هذا التأليف الفريد:
"والشرح رغم صغر حجمه، ورغم ارتباطه بقصيدة هزلية، شرح نفيس، ملأه الشارح بما يمتع القارئ  ويفيده، ففيه إلى جانب الهزل الذي يتم به الترويح عن النفس، وتجديد النشاط، معلومات قيمة ، تسهم في تكوين شخصية  الإنسان، وتأهيله للقيام بأدوار الخلافة المنوطة به في هذه الدنيا، ولو أردنا أن نتتبع هذا الشرح، لوجدناها كثيرة ومنها على سبيل التمثيل :
1-  إفادات لغوية كثيرة ، من شأنها أن تُنَمِّيَ لدى القارئ رصيده اللغوي ، وأن تُقَوِّم لسانه ، وتعصمه من اللحن والخطأ ، وتمكنه من التعبير عما يريد التعبير عنه ، بلغة عربية سليمة ، وبأسلوب جميل .
2  ـ استشهادات كثيرة بأبيات شعرية جميلة ، تتضمن الحِكَم البالغة  والمواعظ النافعة .
3-   إفادات أدبية هامة ، تنضوي تحت لوائها إشارات بلاغية ، وملاحظات نقدية ، وأمثال عربية ، وضَرَائِر شعرية ، وما إلى ذلك ."
كما زاد هذا الكتاب تألقا اجتهاد ولد المؤلف الأستاذ عبد الوافي رضى الله السوسي على عادته- في إخراجه مقابلا على عدة نسخ منها نسخة المؤلف الخطية، وتصحيح المتن والتعليق عليه وتخريج آي القرآن الكريم وحديث سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، والتعريف بالأعلام المذكورين بالمتن، كما حرص على التعريف بمن كان كان سبب تأليف الكتاب وهو الفقيه سيدي امحمْد التناني رحمه الله(-1998م)، ثم ختم عمله بتمهيد رائق خصّه للتعريف بالعصيدة، وهي حرِيَّة بالتعريف، لاسيما لأبناء هذا الجيل من الناشئين في الحواضر الذين استبدلوا بالعصيدة وأخواتها من الأطعمة البدوية الساذجة أكلات الحواضر الفاخرة، بله الأكلات غير المغربية شامية وتركية ويابانية وفرنسية وأمريكية، خاصة سريعة التحضير التي تتناول في المحلات على عجل، وقد ساق الناشر في تقديمه سوقا لا يبقي ولا يذر.. كل ما أمكن له الوقوف عليه مما تعلق بالعصيدة حتى ذكر المنسوبين إليها من الأعلام والأماكن.. فكان عمله موازيا لعمل والده، الذي إن أنصف العصيدة مدحا ووصفا ثم شرحا للمدح والوصف، فإن ولده أنصفها بإيراد كل ما له علاقة بها وباسمها.. فكان بحثه نافعا مثمرا بحول الله.
هذا وإن هذا الكتاب يمثل تلك الحلقة الوضاءة من الوفاء لتراث السلف الصالح لوطننا العريق الماجد، من الذين أفنوا حياتهم في خدمة كتاب الله وأهله رحمهم الله، فاجتمع لإخراج هذا الكتاب:
-     الأبناء البررة ممثلين في الأستاذ عبد الوافي رضى الله العامل بجد وكد وصبر دائب على إخراج المخطوط من تراث والده.
-     والأصدقاء الأوفياء ممثلين في السيد الفاضل إبراهيم بن عيسى وباعوس وفقه الله وقضى أربه، الذي بقي وفيا لتلك العلاقة الفريدة التي كانت بين والده والعلامة السوسي.
-     ثم الباحثون العلماء الأفاضل ممثلين في فضيلة الأستاذ الدكتور اليزيد الراضي الذي قام بالواجب تجاه تراث العلامة السوسي فواكب نشر هذا الكتاب مطالعة وتقديما.
 فكانت نتيجة هذا التعاون والتلاؤم والتواؤم،  وتلك المحبة والود، وذلك الإخلاص والوفاء، صدور هذا الكتاب في حلة انيقة شكلا ومضمونا، ليذكّرنا مرة أخرى بالعلامة السوسي وحكمته وعلمه وأدبه، وليذكّرنا من خلاله بعلماء الوطن والأمة الماجدين الذين ملأوا الدنيا نورا وفضلا وعبقا، ولازالت آثارهم تدل عليهم، فتتنزل بذكرهم الرحمات ، وتربو البركات، وتهفو النفوس للطاعات، وتكشف عنها الكربات، برضى رب الأرض والسماوات.
والحمد لله أولا وآخرا
-     الكتاب: الثريدة المناغية للعصيدة.
-     المؤلف: محمد المختار السوسي
-     الناشر: عبد الوافي رضى الله السوسي
-     عدد الصفحات:184صفحة
-     الطبع: مطبعة المعارف الجديدة الرباط، 1434-2013.

وللإطلاع على فهرس الكتاب: