بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 20 ديسمبر 2013

إصدار جديد بمناسبة خمسينية العلامة محمد المختار السوسي: "لب الفوائد.."


صدر يومه الجمعة 16 صفر الخير 1435 موافق 20 دجنبر 2013 عن مطبعة المعارف الجديدة بالرباط كتاب جديد بمناسبة خمسينية العلامة محمد المختار السوسي رحمه الله بعنوان " لب الفوائد فيما قيل عن العلامة رضى الله محمد المختار السوسي من كلمات وقصائد"، تضمن مجريات التأبين المقام بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاته والذي نظمته رابطة علماء المغرب يوم الأحد 29 جنبر 1963، وقد أشرف على إخراج هذا الكتاب المميز نجل المحتفى به الأستاذ عبد الوافي رضى الله، حينما تصدى بصبر وأناة لجمع الكلمات والقصائد التي قيلت بالمناسبة وتصنيفها وتصحيحها ونشرها في هذا السفر النفيس، وقد ألح علي الأخ الفاضل الكريم ناشر الكتاب في تسويد الصفحات بذكر انطباعي عن الكتاب ومناسبة صدوره، فاستحييت أن أرد طلبه، فحررت أسطرا أذكر فيها مشاعري بالمناسبة مناسبة صدور الكتاب ومناسبة ذكرى مرور خمسين سنة على وفاة المحتفى به رحمه الله، فها هو المكتوب، الذي تولى الناشر نشره آخر الكتاب، وقبله معلومات عن الكتاب، والله ولي الصواب.
عنوان الكتاب: لب الفوائد فيما قيل في تأبين العلامة رضى الله محمد المختار السوسي من كلمات وقصائد.
الناشر: عبد الوافي رضى الله بن محمد المختار السوسي، الساهر على نشر تراث والده.
عدد الصفحات:584.
المطبعة: المعارف الجديدة، الرباط
التاريخ: 1435/2013.

وهذا نص التقريظ:

من وحي " لب الفوائد.."

هذا كتاب مفرح مُسَرّ، ومحزن مبك في آن معا، مفرح مسر بالشهادات التي قدمها نخبة من نجوم الفكر المغربي الخلاق، وطائفة ربانية من أساتذة المعارف في المغرب الحديث، وجماعة من أرباب الأدب والإبداع الأصيل، وكوكبة طيبة مباركة من رفاق العلامة السوسي في النضال الوطني وزملائه في العمل التدريسي التعليمي، وأقرانه في التأليف والبحث العلمي، من مختلف مناطق المغرب بل من خارجه من العراق والشام وشبه الجزيرة العربية .. فأدوا ما رأوه منه من خصال وخلال، وما شهدوه من أفعال وأعمال، بما يشهد له بحسن السيرة، وكمال الخلق، وطيب السريرة، ونبل النفس، وعلو الهمّة..
كما أن الكتاب محزن مبك لما في ثناياه من أنات مستورة، وبكاء مكتوم، تنضح به كتابات الكاتبين وأبيات الشعراء الناظمين، تصور عظم المصيبة بالعلامة المختار، حينما فقده المغاربة والمغرب في زمن أحوج ما يكونون إلى علمه وحكمته، وخلقه وشهامته، وزهده وتضحياته.. فلو بقي المختار حيا بعد هذا التاريخ لكان وكان.. ولكن "لو" تفتح عمل الشيطان، وقدر الله نافذ على كل حال ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
مات العلامة المختار.. انقطع عن الدنيا، ولكن لم ينته علمه فهو باق بعده، بل مستمر بما قدّم للأمة من أعمال فذة صاغها بعقله الواعي وفكره السديد وسريرته الطيبة، وذكائه الوقّاد، وطموحه الوثّاب، فمازالت أعماله تنال يوما بعد يوم ما تستحق من اهتمام، وينثال الباحثون والمهتمون زرافات ووحدانا لمطالعتها والتمعن فيما حوته من معاني وأفكار وفوائد وأخبار..
وكما استمر علمه، استمر أبناؤه بعده مهتمين بمؤلفاته، يصونون المخطوط منها حتى لا تصل إليه يد الإهمال أو الضياع، باذلين ما استطاعوا من أجل نشره وإخراجه في أحسن حلة وأفضل طبعة،  معتكفين على ذلك يجعلونه ديدنهم وهجيراهم، طوال سنين مضت، حتى صارت مؤلفات والدهم المرحوم بكرم الله إن شاء الله - تثرى سنة بعد سنة تغني المكتبة المغربية والعربية الإسلامية، على اختلاف مجالاتها وتنوع اهتماماتها، وحتى صار اسم العلامة المختار بفضل هذا الإصرار العجيب على استكمال إخراج كافة مؤلفاته ملء السمع والبصر، وحديث كل ذي فكر وثقافة.. وأكاد أجزم أنه لم يوجد في تاريخ المغرب الحديث أبناء عالم بذلوا ما بذله أنجال العلامة المختار في سبيل إخراج التراث الضخم لوالدهم من جهود منذ أصدروا أول كتاب له في سنوات الثمانين من القرن الماضي حتى سنتنا هذه.
لم يمت العلامة المختار وهو في كل سنة يخاطبنا عبر كتاب أو كتابين من مؤلفاته، فتارة يحدثنا عن تاريخ المغرب ومجرياته، وأعلامه وذكرياتهم، وتارة يخبرنا عن شيوخه الحضريين أو السوسيين، وعن زملائه من العلماء الربانيين وتلاميذه من الطلبة المستنيرين، وتارة عن الرؤساء السوسيين، أو عن المعتقلين الوطنيين، حتى إذا رأى الملل يمد يديه إلينا، مال بنا إلى الفكاهة المفيدة والمرح المجمّ للفؤاد المنشط للفكر، فقرأ علينا ما سمع من الشيوخ من لطائف وما قرأ في كتب السوسيين من طرائف، وحدثنا عن العصائد والثرائد.. ونحن من كل ذلك مستفيدون، وبكلامه المعسول مستمتعون.. فمن يصدق بعد كل هذا أن المختار قد مات.. ؟
ثم هذا " لبّ الفوائد.." يصدر في هذه الحلة القشيبة الزاهية ولو أنه متشح بالحزن.. حزن الرفاق والزملاء والأحبة والأقربين لفراق المختار، حينما اختاره الله لجواره رحمه الله، فأظهروا من أحواله الغراء ما كان مستورا، ومن علمه الثر ما كان محجوبا عن كثير من معاصريه، ومن محبة الناس له ما كان مجهولا، حتى لقد كان عوام الناس يعزون بعضهم بعضا في وفاته، ويبكون حرقة فراقه.
 قرأت " اللب" فإذا به شهادات صادقة وكلمات دقيقة، يصف كل كاتب من كتّابها جانبا يعرفه عن العلامة المختار من زهده وورعه، ووطنيته ونضاله، وتدينه الصادق وورعه الخالص، وإنسانيته المفرطة، وحنانه الفياض، وعلمه الواسع وفكره العميق، وصبره وأناته، وحماسه الوثّاب، وإخلاصه الثابت..
لقد أطلق المشاركون في التأبين العنان لأفكارهم وعواطفهم، وقد كانوا يدركون أنهم يقدمون شهادة للتاريخ، ينبغي أن يوفوها حقها، ويكتبوا لمن سيأتون من الأحفاد على منهج السوسي نفسه ما سيحتاجونه للتعرف على صاحب المعسول وأخوات المعسول من مواقف وأحداث، وقد خبروه وعرفوه من خلال مرافقته سنين عديدة وعقودا مديدة..
لم يكن كلام المتحدثين ولا شعر الشعراء المبدعين إطراء في غير مكانه ولا ثناء مبالغا فيه، وإنما استدل الناثرون على وقائع ذكروها، ومواقف سردوها، واعتمد الشعراء عاطفة صادقة فيّاضة صدروا عنها، فوصل ما نثر الناثرون إلى العقول بالحجج فأقنعها، وبالأدلة الظاهرة فأخضعها، واتصل شعر الشعراء بالقلوب فأثر فيها، فكان من أعظم منن هذا الكتاب أن صوّر شخصية العلامة المختار من خلال أصدقائه، وهم نخبة من العظماء المحترمين في تاريخ المغرب الحديث، من العلماء والفقهاء وكبار المثقفين والمفكرين والكتاب، بل من نبغاء البلاد العربية والإسلامية. ولعل أكثر ما يؤسف له أن يتأخر طبع الكتاب إلى هذا الزمن.. وقد قيل ما قيل وكتب ما كتب.. منذ  خمسين سنة.. ولو طبع الكتاب في إبانه لكان له أثر عميق في التعريف بهذا العلم الفذ وإبراز فكره وبيان عمله ومنجزاته.
أخبرني أحد الأساتذة المحترمين الذين أعرفهم، فقال:
" لو قرأت ما كتب العلامة السوسي منذ ثلاثين سنة، لتغيرت نظرتي إلى الأمور بكيفية جذرية، ولو اطلعت على فكره لتغيرت حياتي كلية.. ولكن ذلك تأخر كثيرا فلم يبق لي إلا الأسف على ما ضاع مني من فرص.."
سألت نفسي وأنا أسمع كلام هذا الأستاذ المحترم: "هل نحن قوم الفرص الضائعة؟؟ في التعرف على العلامة المختار وعلى فكره؟؟ ومن الاستفادة من تصوراته ونظرته الإصلاحية ؟؟ وعلى النهل من فكر جيله الوطني المخلص؟؟" وعلى الاستفادة من تراث ماضينا القريب والبعيد؟؟
لعل صدور الكتاب يجيب عن بعض هذه الأسئلة، ومن قرأ  ما ورد فيه من كلمات، وأنشد ما سطّر فيه من أشعار، سيقرأ للمشاركين في التأبين مواقف عبروا عنها، وأفكارا أعلنوها، وتحذيرات أطلقوها، وأخطارا نبهوا إليها في تلك المرحلة الدقيقة من تاريخ المغرب المستقل، المغرب الباحث عن شخصيته وخصوصيته، الطامح إلى الارتباط بحضارته ومجده التليد، المتطلع إلى تحقيق النهضة الشاملة والتنمية المنشودة، وذلك كله كان شغل العلامة المختار وهمّه يبثه لأودائه من كل صديق وكل رفيق وكل طالب مخلص نبيه.. ويعلنه في أحاديثه الإذاعية وفي لقاءاته العامة وفي مؤلفاته الكثيرة.
لقد تابعت أخبار نشأة هذا الكتاب وتجمع أجزائه منذ كان "كلمات" معدودة، وجدها الأستاذ عبد الوافي رضى الله في أضابير خزانة والده، فأخرجها من صوانه، وانصرف إلى ترتيبها وقراءتها وتصحيحها، ثم انطلق بما رزق من صبر وأناة ودأب، للبحث عن ما نقص من إسهامات في التأبين لدى من بقي من الرعيل الأول المشارك في الحفل، يسأل ويستفسر، ويجمع وينقب، ويقابل ويوفّق، فكم من مخطوطة مبتورة مختلطة أخرج،  وكم من مرقونة مضطربة غامضة استخرج، حتى تجمّع له أغلب ما ألقي في ذلك الحفل المهيب، فتتبعه تشذيبا وتوضيحا، وتصويبا وضبطا وتحقيقا، وحتى وصل إلى هذه الصورة التي نراه عليها الآن بين أيدينا، كتابا تامّا جامعا لسجلّ تلك الأمسية الحزينة من أيام دجنبر عام 1964.
حينما نفتح الكتاب ونقرأ ما دوّن بين دفتيه نشعر بأننا نسافر في الزمن، إلى زمن المختار وأصدقاء المختار وأهل المختار ومحبي المختار، إلى ذلك الفجر النديّ الذي أحيته نفوس طيبة مؤمنة تبكي المختار وفراقه، وتذرف الدمع على غيابه، فلا ننفك نشاركها الحزن والألم الممض، فيا لله كيف تحيي أنّات الصادقين الأحزان، وكيف تكهرب قوافي الشعراء الصادقين عواطف الأحفاد ليبكوا فراق أحد أجدادهم وكأنه توفي البارحة، بينما كانوا إبان وفاته خلف سجف الغيب المستور.
غير أن المقصود من الكتاب ليس الحزن والكآبة ولا البكاء والعويل وإنما ليعرف اللاحقون كيف كان السابقون ينظرون إلى العلامة المختار ويقدرونه ويحترمونه، وكيف ينبغي للأحفاد أن يستفيدوا من تراث أجدادهم، لا بتقديسه والتبرك به، ولكن بالتفاعل معه، وإعمال الفكر في الاستفادة منه، وتلمس المناهج السديدة في البحث عن الفائدة منه بلا جمود ولا جحود، فهكذا كان العلامة المختار نفسه، يأخذ ويترك ويقبل ويرد على بينة ووفق دليل، وما دليله إلا الشرع الحنيف ومصلحة الأمة، وهما والحمد لله مجتمعتان لا تفترقان إذ "المصلحة المحافظة على مقصود الشرع" كما قال أبو حامد الغزالي.
فهنيئا لنا صدور هذا الكتاب، الذي يجدد ذكرى العلامة المختار بعد خمسين سنة من وفاته، ليلتحم تأبين الأجداد بذكرى الأحفاد، ويتآلف الجميع على الاحتفاء بالعلم وأهله من العلماء، فالعلماء هم الذين أقاموا الدين والدولة في المغرب، وهم الذين بنوا شرعيتها، وأسسوها على ثوابت واضحة راسخة لا تتزلزل بإذن الله، حينما قصدوا وجه الله بأعمالهم، وحرصوا على وحدة الأمة وأمن الناس، وربطوا مصير البلاد بإقامة الدين، وبنوا ذلك على البيعة الشرعية المحمية بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحصنوا البلاد من الفتن والبغي، وصانوها بالوحدة تحت ظل إمارة المؤمنين تحميها من عواصف الأزمنة وزلازل الأهواء والمؤامرات، لتستمر سفينة هذا البلد الأمين بفضل الله وبفضل عقيدة التوحيد وبركة القرآن الكريم وسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، تمخر عباب الزمن بإذن ربها آمنة مطمئنة بالرغم من مكر الماكرين.
وها نحن بعد خمسين من وفاة العلامة المختار، نكتشف ما سبق أن سطره في كتبه وأسفاره، وما دبجه في قصائده وأنظامه، أن للمغرب والمغاربة خصوصية تجعلهم مختلفين عن غيرهم من أمم الشرق والغرب، فلهم خصوصيتهم الفكرية والعقدية والدينية ولهم وحدتهم واتحادهم، ولهم تنوعهم الثقافي واللغوي، ولهم عاداتهم وتقاليدهم التي لا تصادم الشرع، ولهم ارتباطهم بتاريخهم المجيد وتراثهم التليد وحضارتهم العريقة، ولهم ثوابتهم الشرعية والوطنية التي تحميهم وتحفظهم، فلا مستقبل لهم إلا في اعتصامهم بما لأجدادهم من تدين وورع وعلم ومعرفة، ولا حياة لهم في الانحلال من أصولهم الثابتة عبر التاريخ، فذلك لا يؤديهم إلا إلى الدمار والهلاك، فلا انقطاع عن الآخر الموافق ولا اندماج بلا حدود في الغير المخالف، ولكن بصيرة وتبصر وإدراك لحدود الاستفادة ومحاذير التقليد.
لقد كان العلامة المختار يدرك أن زمنا قريبا سيأتي سيشعر فيه الأحفاد بالحاجة الملحة للاستمداد من تراث الأجداد، فبذل جهده في جمع ذلك التراث وحفظه، سيرا على منوال من سبقه ثم من عاصره من علماء المغرب العظام ومؤلفيه الكبار، ليجد الأحفاد ما هم في حاجة إليه يوم يشعرون بأن ماضيهم المجيد دليلهم لمستقبل مشرق، حينما يتأملون سير السابقين من سلفهم ليقتبسوا منها ما عسى أن يضيء أيامهم في ليالي الظلمات الحوالك، وهل هناك ظلمات أحلك من هذه الفتن المدلهمة التي ترتكس فيها بلاد العربية والإسلام في أيمنا هذه؟
نعم ها نحن نرى الآن كيف صار المفكرون في بلادنا يرفعون أصواتهم بضرورة الارتباط بالتراث الفكري والثقافي المغربي، وكيف يتنادون إلى النهل من فكر الأجداد، ويرون ذلك ملاذا عزيزا منيعا من مدلهمات المستجد من الفتن، وكيف صارت تتقوى أفكار القائلين بأن المغاربة لا يحتاجون لاستيراد تصور  عقدي ولا اتجاه فقهي ولا فكر اجتماعي خارج الأصول الزاخرة الغنية الموروثة عن السلف، مع ضرورة الانفتاح على العصر كما كان الحال دائما عبر التاريخ بأخذ النافع المفيد وطرح ما سواه من البهرج الزائف الذي يغشي بريقه المغشوش الأعين الكليلة، ولا يكون ذلك الخذ إلا بالاعتماد على معيار الوحي الرباني الممثل في القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم على اجتهادات علماء المغرب العظام ومن ماثلهم من أئمة المذهب المالكي ثم الاستفادة من اجتهاد علماء الإسلام.. وتنزيل ذلك كله على الواقع طلبا لمصلحة الأمة وديمومة قوتها ووحدتها..
فمرحى ذكرى المختار، ذكرى مضمخة بطيب التاريخ والتراث المغربي ومجده العريق، معطرة برنات القوافي ونغمات الأوزان، مروقة بمعسول البلاغة والبيان، ذكرى ممتدة في الزمان لا تفتر ولا تنقطع.. تسير لتبلغ مداها من إيقاظ الوسنان وهداية الحيران إلى سبيل الحق والهدى، ففي كل عام يذكر المختار وفي كل عقد يزداد الذكر والاحتفال، به وبأقرانه من عظماء علماء القطر المغربي الشامخ بحول الله - عبر الدهور معبرا عن الإخلاص لله رب العالمين ولنبيه الأمين والمحبة لأمراء وعلماء هذا البلد المكين بفضل الله وقوته ومنه، آمين
والحمد لله رب العالمين