سنا الأنوار من ذكرى العلامة المختار
خاطرة بمناسبة مرور 52 سنة على وفاة العلامة محمد المختار السوسي
(1383هـ/ 1963م-1437هـ/2015م)
عنّ لي وأنا أعمل على إجابة رغبة ابن العم السيد أحمد رضى الله بن العلامة محمد المختار السوسي، بتحرير خاطرة بمناسبة حلول الذكرى 52 لوفاة والده المنعم العلامة الوطني المؤرخ الغيور، الذي وفاه الأجل في 17 من نونبر عام 1963م، لتنشر في موقع جمعية الوفاء على الشبكة العالمية للمعلومات الذي يشرف عليه، أن أبحث في هذه الشبكة عن جديد ما نشر حول هذا العلم المغربي والإسلامي الكبير، اعتبارا لأهمية هذا المجال في نشر المعرفة العصرية، واتكاء الناس عليه في نشر المعلومات والبحث عنها. حتى صارت تمثل طبيعة التفكير في مختلف الأقطار والأزمان، واهتمامات الناس ومشاغلهم وهمومهم.
وقد استعنت بمحرك البحث گوگل، وخطر لي أن أبحث في مختلف أبواب البحث، فمررت بالويب، فوجدت 181 ألف إحالة على اسم العلامة السوسي، ( محمد المختار السوسي) و125 ألف عند كتابة اسمه بالحروف اللاتينية( (Mokhtar Soussi اشتمل كل ذلك عددا هائلا من المقالات والدراسات والإشارات لشخصه الكريم، ترجمة لسيرته، أو تناولا لفكره، أو أعماله في كتب ورسائل وأطاريح جامعية، أو شهادات معارفه وتلامذته، أو اقتباسات مما كتب عنه، أو كتب هو عن الناس، محررا لسيرته بأسلوب غير مباشر كما ذكر هو نفسه حينما سأله أحد المهتمين قائلا لقد كتبت عن كثير من الناس، فماذا كتبت عن نفسك؟ فأجاب كل ما كتبته عن الناس، إنما يتضمن ترجمة نفسيتي وفكرتي.
ثم انتقلت إلى مجال الصور، فوجدت عددا كبيرا من صور الفقيه المرحوم في مختلف أطوار حياته، شابا حدثا ثم في عنفوان الشباب، ثم كهلا، ثم شيخا في مقدمة الشيخوخة حينما اختطفته المنون من بلد أحوج ما كان لحكمته وحنكته، كما وقفت على صورة للطابع البريدي الصادر منذ بضع سنوات تكريما له، ورأيت هناك أيضا عددا كبيرا من صور شيوخه وأبنائه، وتلامذته وأصدقائه، ومحبيه وقراء كتبه ودارسي مؤلفاته، وصور كتبه ومخطوطاته، ومسقط رأسه، وهكذا كان المختار دائما من الناس وللناس مخلصا للود، متذكرا للإخوان حتى في أحلك اللحظات، محافظا على العهد وإن بعدت الديار وشط المزار.
ثم انتقلت إلى مجال الفيديو وفيه أشرطة كثيرة من برامج تلفزيونية أنجزت حول هذا العلامة الوطني الفريد، بالعربية والأمازيغية، منذ انتبه المغاربة إلى أهمية تراثه المعرفي المتنوع بدءا ببرنامج حضور وانتهاء ببرنامج الرواد وغيره، إضافة إلى تسجيلات دروسه الوعظية التي سجلها بالإذاعة الوطنية خلال أشهر رمضان من سنوات 1960 إلى 1963م، كما تضمنت المرئيات تسجيلات لمختلف الندوات التي شهدتها مختلف مناطق المغرب حول العلامة السوسي ومنها نوادر مثل ندوة فاس التي نظمتها جمعية إيليغ سنة 1990، واشتملت على مشاركات فطاحل العلم والتاريخ والأدب في المغرب.
ثم انتقلت إلى باب الأخبار، فوجدت العلامة موجودا في ثناياها، وقد لفه اللحد منذ 52 سنة، ومن جملة 949 خبرا، وجدت أحداثا ووقائع تتعلق بمؤسسات حملت اسم الفقيد من ثانويات ومستشفيات ومدارس، وأخرى ارتبطت برفاق دربه في الكفاح والنضال الوطني، ولمّا كان من القضايا الساخنة – بلغة الإعلام – في هذه الأيام قضية المهدي بن بركة، وقد تم تخليد ذكرى اختفائه المبهم في حفل كبير تليت فيه رسالة ملكية سامية، فقد ورد ذكر العلامة السوسي وكتابه معتقل الصحراء، وما دبجه في ترجمة هذا الرجل – ذي المصير الغامض – أثناء ترجمته لمعتقلي أغبالو ن كردوس. كما ورد ذكر السوسي في السجال الدائم الذي لا ينقطع بين المتعصبين للأمازيغية الذين لا يرون الحق إلا في تحريف هوية المغرب عن حقيقتها، ومجادليهم من المنصفين الذين يضعون الهناء موضع النقب مستشهدين ومستندين إلى علماء المغرب العظام الذين نبغوا في علوم العربية والإسلام، مع انهم رضعوا لبان الأمازيغية من ثدي أمهاتهم، وفي طليعتهم العلامة السوسي. كما ورد ذكر السوسي في بعض المواقع التي أوردت خبر صدور كتب ومؤلفات مثل كتاب ” أعلام وأقلام القصر الكبير” لمؤلفه محمد العربي العسري، بوصفه اتبع منهج السوسي وزملائه من مؤرخي مرحلة الحماية في التأريخ الجهوي للمغرب مدنه وقراه وجهاته.
ثم انتقلت إلى الخرائط، وكانت المفاجأة أنها لم تخل من ذكر العلامة السوسي، فهذا مسجد باسمه بأيت ملول بعمالة إنزكان أيت ملول، وهذا سد بأولوز شرق تارودانت، وهذا مستشفى بتارودانت، وهذه دار الشباب في منطقة تارّاست بإنزكان، وهذه إعدادية بشارع الرياض بمدينة القنيطرة وهذه مصحة خاصة بأكادير، وتلك صيدلية بتزنيت، وذاك شارع بالمحمدية وآخر بإنزكان، وتلك زنقة بالرباط.
أما في مجال الكتب فحدث ولا حرج، فعند البحث نعثر على 450 إحالة على كتب باللغة العربية و775 إحالة في اللغات الأوربية وعلى رأسها الفرنسية، منها كتب العلامة المطبوعة وأحيانا المخطوطة، كما نجد الكتب التي ترجمت له أو التي ورد ذكره فيها عرضا، وكذلك أعمال الندوات والأيام الدراسية التي نظمت حول جانب من جوانب فكره، وهي كثيرة، والكتب التي تناولت بالدراسة والتحليل مختلف نواحي الحياة المغربية في القرن العشرين وبعده، سياسيا واقتصاديا وثقافيا وفكريا ودينيا.
هذه جولة سريعة وسطحية في الشبكة العنكبوتية تخبرنا ببروز الاهتمام بالعلامة السوسي وجوانب نشاطه العلمي الذي ملأ دنيا المفكرين وشغل الباحثين وعموم المثقفين، وقد شغف الناس بالكتابة عنه وحوله، فكانوا ما بين من يعدد أياديه البيضاء وإحسانه للثقافة المغربية والتراث الوطني، وبين من ينظر إلى عمله وشخصيته نظرة ضيقة لا تتجاوز فكره القاصر القصير، وقليل ما هم ولله الحمد والمنة، قلت هذه نظرة سريعة في الشبكة العالمية، لأن الجانب المبحوث فيه هو الظاهر الممكن الوصول إليه، فمحرك البحث لا يقوم بإظهار النتائج في مواقع التواصل الاجتماعي، كما أن الأنترنيت الخفي الذي يضم آلاف قواعد البيانات، وملايين النصوص المغلقة دون التصفح المباشر المجاني أو المؤدى عنه، إلا لمن كان مسجلا وذا حساب في الموقع، ومنها دراسات وأبحاث حول العلامة السوسي بلغات مختلفة وفي دول متعددة، دون أن ننسى الإشارة إلى انتشار كتبه في مختلف مناطق المعمور من المكتبات الأمريكية والكندية المشهورة غربا وحتى مثيلاتها في اليابان شرقا مرورا بأوروبا وآسيا وحتى مكتبات الكيان الصهيوني الغاصب وخاصة مكتبة جامعة تل أبيب.
هذا الكم الهائل من النصوص والإحالات والكتب والمقالات والصور والأشرطة المرئية، كلها تقف لتتحدث عن العلامة المختار، بعد أن استراح من الدنيا وأهلها وانتقل راضيا مرضيا – بحول العلي القدير-إلى جوار ربه، وقد صار جزءا من التاريخ الذي كتب بعض فصوله، وصار إنسانا مذكورا مشكورا، تحرر عنه المقالات وتدبج القصائد وتنجز الأبحاث والأطاريح على خلاف ما ظن صديقه الأستاذ العابد الفاسي، الذي أورد عنه العلامة السوسي في كتابه ذكريات ( ص:18) ما يلي:
«أذكر يوما .. أنني قلت له في معرض شيء –وأنا أداعبه – أرأيت ما سيقول فينا من بعدنا، وكيف يتصوروننا، فقال: أبَلَغ بك الاعتداد بنفسك، حتى تحسب أن من بعدك سيُلْقون عنك محاضرات؟ وينشؤون عنك مقالات؟ وتصبح موضوع أخذ ورد بين الباحثين حول شخصيتك؟ فقلت له: ما أقسى نقدك للكلام.»
حقا وقع كلما اعتقد الفاسي أنه من باب الاعتداد والغرور، فقد انتشرت كتب السوسي وتلقفها الناس، وطبعت حتى خارج المغرب، ثم قدر لبعضها أن يصور وينشر على الشبكة العالمية فأصبح متاحا في كل زمان وفي كل مكان، كما حررت مقالات كثيرة عنه، ليس في المغرب وحده، بل في البلاد العربية ونشرت في العراق وقطر والإمارات والسعودية، وفي أوربا، وألقيت محاضرات كثيرة لا تعد ولا تحصى في الجامعات المغربية والمشرقية والغربية والشرقية القصية، وحررت أطاريح كثيرة، وأصبح العلامة السوسي موضع أخذ ورد بين الباحثين، ففي مجال التاريخ، نقاش بين من يرى فيه صاحب منهج متميز عن جميع أقرانه، يتفوق على أحدث مناهج الكتابة التاريخية، ومن يراه – كما قال عنه أحد رفقاء الكفاح- مجرد فقيه في الأجرومية، وفي مجال الفكر والدين، نقاش بين من يرى فيه رائدا من رواد السلفية الوطنية المحاربة للخرافات المقاطعة للتصوف وطرقه، وبين من يراه فقيرا صوفيا منغمسا في الطرقية وسبلها، وبين من يقف حائرا مستفسرا عن طبيعة جمعه بين السلفية والصوفية، مجتهدا في تقديم تفسير لما يظنه غامضا من مواقفه وأفكاره في الجانبين معا.
ليث شعري ماذا سيكون موقف الأستاذ العابد الفاسي، لو بعث في زمننا ورأى كيف يهتم الناس بالمختار وفكر المختار ومؤلفات المختار في المغرب وخارجه، وكيف انكب الباحثون في مختلف مجالات المعرفة على التنقيب في هذا التراث الضخم الذي تركه، وكيف جاراهم الأجانب في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وأمريكا وكندا واليابان؟ وكيف صار السوسي ملء السمع والبصر، بينما انطوى ذكر الأستاذ العابد الفاسي فلم يعد يعرفه أحد إلا قلة من الباحثين المتخصصين؟
ولعل الشاعر محمدا العثماني كان أفضل تقديرا لمنجز العلامة السوسي، وأكثر شعورا بأهمية موقفه من التاريخ وموقف التاريخ منه، وهو يقول في قصيدته الفارسية الرائقة:
وبعد، فرحم الله العلامة المختار ونور قبره بأنوار الرضى والقبول، وجلل جدثه بشآبيب المغفرة والرحمة والرضوان، هو ورجال ذلك الجيل العالم العامل، وبارك في الخلف وعوضنا من أمثاله خيرا كثيرا، آمين والحمد لله رب العالمين.