لعل الأستاذ الأديب سيدي أحمد عبد السلام البقالي من القلائل الذين نذكرهم نحن الناشئين في أوائل سنوات السبعين من القرن الماضي بكل حب وتقدير، كيف لا وهم يذكروننا بأيام الطفولة التي اقترن ذكرها وذكرياتها بأسمائهم.. من خلال ما كنا نقرأ لهم من نصوص وأشعار وأناشيد في سلسلة الكتاب المدرسي إقرأ للمرحوم أحمد بوكماخ.. ثم ما جاء بعدها من كتب مدرسية ..
لقد كانت كتابات سيدي أحمد عبد السلام البقالي من أوائل ما اطلعنا عليه وطالعناه وتعلمنا من خلاله العربية وقواعدها الأولية وتذوقنا لذة السرد القصصي ومتعة الخيال والقص، ثم تابعنا المسيرة التعليمية فكان أستاذنا الفاضل يطل علينا في كل مرحلة بنفسه الرصين وأسلوبه الهاديء الواضح دون إسفاف، وبعد أن بلغنا ميعة الشباب قرأنا له ما شاء الله أن نقرأ في صحيفة العلم التي كانت يطل منها علينا بين الفينة والأخرى، وفي مجلة دعوة الحق، فكانت قصصه عبرا وحكما وفكرا خاصة أنها في الغالب كانت مستقاة من الواقع وأحداثه التي يفوق بعضها خيال المتخلين..
وإن أقسى ما أوقعه الدهر في هذا الجيل الذي نمثله وفاة هذا الأديب النابغ الفريد في جيله، لقد عرفته من خلال قصصه وكتاباته إنسانا هادئا حكيما متأنيا ناظرا إلى بواطن الأمور، ولعلني لا أبالغ إذا قلت أنني وجدته كما تخيلته بل أكثر من ذلك، فقد يسر الله لي الاتصال به مراسلة أولا عندما قررت أن انجز دراسة حول مجموعته القصصية الموجهة للأطفال، وبعد أن اقتنيتها وقرأتها سجلت بعض الملاحظات وارتأيت استشارة الكاتب، فبحثت عن عنوانه دون طائل وسألته عن هاتفه حتى حصلت على رقم تبين لي بعد الاتصال به أنه لرجل آخر في مجال وظيفي مختلف.. وكان أن كاتبته في مقر عمله في الديوان الملكي، فلم يلبث أن أجابني برسالة جسدت وده وتقديره لباحث مبتدئ وشكره على الاهتمام به وبأدبه، ثم شاء الله تعالى أن أحضر إحدى الندوات التي نظمها النادي الجراري بالرباط برئاسة أستاذنا أستاذ الجيل الدكتور عباس الجراري، فلقيته هناك وجها لوجه وسعدت بالتعرف عليه ومحادثته، ورأيت جمال الرجال كيف يكون في الأدب الجم والتواضع الكبير والمخالقة الرفيعة التي تشي بما وراءها من علم كبير ونظر ثاقب واكتشفت عظمة الرجل، وقد أخجلني في حديثه فكان لا يخاطبني إلا بلفظ السيادة.. ثم انفضت الندوة وكان لم يحضر إلا بعض جلساتها فلم يتيسر لي لقاؤه وإن كنت تابعت بعض ما كان ينشر له في المغرب وخارجه وبعض ما عقد له محبوه من تكريم واحتفاء بأدبه وإبداعه..
ومر الزمان ثم لم يرعني إلا نعيه صيف هذا العام.. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فكانت صدمة كبيرة مثلت نهاية مرحلة عزيزة على النفس كان الأستاذ سيدي أحمد من رموزها الحية مرحلة الطفولة والصبا ومرحلة بدايات الدراسة والتعلم.. فقد المغرب أحد أعلامه الكبار المتميزين ممن خطوا لهم طريقا خاصا تميز بالنفع الكبير والتربية السليمة المرتكزة على تأصيل القيم المغربية دينية وعقدية ووطنية في نفوس الناشئة، وكل ذلك من خلال مقالاته وإبداعاته وكتاباته عموما، فكان قلمه ينبوع معرفة ومنهل خلق فاضل ومعين مبادئ لا ينضب، كان يجلي قيم الدين للعقول المتفتحة لتفهمها وتتعلق بها حتى تكون من أسباب وجودها ودواعي بقائها، ويرسخ في الأذهان اليافعة أركان الإيمان والوطنية الصادقة المتجلية في صالح العمل وجميل الخلق لتزهو بها وتنزلها على الواقع فعلا وتطبيقا، فكان يبني بينما كان غيره يهدم وكان يقوّم في حين كان الآخرون يشوهون.. فكان أدبه أريا شافيا وكان سوء أدبهم سما ناقعا مؤذيا..
ثم لمّا كانت نهاية السنة الميلادية أدرجت القناة المغربية الوطنية تقريرا تحدثت فيه عمن فقدهم المغرب من أعلام وعلماء ومشاهير، فتتبعت التقرير لعله يذكر أديبنا المفضال رحمه الله، وانتقل من علم لعلم ومن مشهور لمشهور وانتهى دون أن يشير إليه أو يذكره فشعرت بألم في نفسي، وقلت كيف ينسى هذا الرجل؟ وكيف يجحد فضله ؟ وقد ذكر من ذكر ممن لا يقاس به من المشهورين في الدنيا الخاملين في الآخرة رحم الله الجميع بمنه وكرمه؟ وكيف يسقط من ذاكرة من دبج التقرير وعرضه؟ أهي غلطة عفوية ام مقصودة؟ ومهما يكن فإن التقرير وأصحابه وإن أغفلوا الأديب الأستاذ البقالي، فإن قلمه قد سطر في وجدان الأجيال صفحات مضيئة عنه ضمنت له الخلود، وفي قلوب محبي أدبه وإبداعه خلودا يصبح معه ذاك التقرير وأمثاله شررا صغيرا متطايرا أمام وهج الشمس الطالعة الوضاءة، وقد تنكر العين ضوء الشمس من رمد - على حد قول البوصيري.
رحم الله الأديب النفاعة سيدي أحمد وشمله بمغفرته وثوبته وبعثه مع من أحب وكما أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم آمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
من أعمال الفقيد رحمه الله:
.................................