بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 17 نوفمبر 2013

50 سنة بعد وفاة العلامة المختار (الأحد 17 نونبر 1963- الأحد 17 نونبر 2013)


     
 في مثل هذا اليوم باسمه وتاريخه، ومنذ خمسين سنة يوم الأحد 17 نونبر 1963 توفي العلامة المؤرخ الوزير الفقيه الصالح المصلح محمد المختار السوسي، رحل عن هذه الدنيا الفانية إلى دار البقاء، مخلفا عملا صالحا وعلما نافعا وولدا صالحا يدعو له، وذكرا حسنا بل دويا مسموعا في آذان الدهر لا يفتأ متزايدا على مدى الأيام والسنين، وذلك بفضل حسن نيته وصدق طويته في نصح الأمة والعمل على عزتها وقوتها، رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة والأجر وبوأه أعلى عليين مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، آمين.
إن من يتأمل مجريات حياة العلامة رضى الله، وعصره وما شهده من أحداث، وأعمالَه الجليلة التي أنجزها، سيذكر أن كل ذلك كان قدرا ربانيا شاءت قدرة الحكيم العليم أن تتحقق به نصرة العقيدة، واستمرار التوحيد بهذا البلد الأمين – بفضل الله - ودحر مكر الماكرين ومؤامرات المتآمرين عن هذا البلد الأمين، أدام الله حفظه أبد الآبدين.
لقد يسرت الإرادة الربانية للعلامة السوسي أن ينجز أعمالا جليلة، ويخلد بقلمه تراث الأمة، ويرسم للسوسيين خاصة وللمغاربة جميعا، بالتصريح تارة والتلميح تارة أخرى، سبل الدفاع عن الهوية والنضال من أجل البقاء، وقد استشف من حاضر الاستعمار الذي عاشه، وتحولات المفاهيم والتصورات التي رآها، أن الأمة مقبلة على تحديات جسيمة، وتحولات هائلة مهولة، قد تطيح – لا قدر الله – بما عملت على ترسيخه الأجيال المتوالية، وتضامنت في سبيل بنائه طوائف العلماء والصلحاء والسلاطين وعموم الناس في بلاد المغرب منذ فجر الإسلام بها، فكانت أعماله كلها موجهة لأجل هذا الهدف سواء في التعليم الذي كرس له حياته، أم الأعمال الاجتماعية التي انتدب إليها نفسه أم المسؤوليات التي تحملها، واستعان في ذلك كله بما آتاه الله من ذكاء حاد وفطنة قوية، وذاكرة دقيقة حافظة، وخلق سام، ونفس أبية عزيزة، وثبات مثل رسوخ الجبال، وطموح وثاب لا يقنع بما دون الثريا، وإخلاص لمبدئه ولأسس العقيدة وثوابت الأمة، كما استعان لتحقيق أهدافه بكل ما أتيح له من وسائل اجتماعية مثل وسطه الأسري الماجد ومكانة والده العلمية والصوفية، وعلاقات العائلة الكبرى المتشعبة الكثيرة، ثم مكانته العلمية بعد أن بزغ نوره واشتهر أمره، ثم جاهه الإداري الوزاري بعد الاستقلال، سخر كل ذلك للإصلاح باللسان والقلم، وبالعمل الاجتماعي الفعال، والصبر على التدريس لعقود طويلة انصرف فيها غيره إلى السبل اليسيرة لتحصيل الشهرة وتحقيق المجد والجاه الزائفين بالظهور بصفة الزعماء، وتجييش العواطف ودغدغة الوجدان، دون سند عملي أو علمي..
ومما يؤسف له أن كثيرا من أبناء جيل العلامة السوسي لم يقرأوا المعسول وأخوات المعسول من مؤلفاته، ولم يفهموا مراميَه، ولا مقاصده، ولا استثمروها في توطيد الهوية والتشبث بها، بل إن بعضهم نظر إليها نظرة ضيقة، تنم عن سوء نية أو غيرة أو حسد..
ولعل في ما وقع لأحد أصدقاء العلامة السوسي من المراكشيين دلالة عميقة ومغزى ظاهر يدل على انصراف الناس عن كتب السوسي ومطالعتها والاستفادة منها، فقد ذكر لي ابناه الفاضلان السيدان أحمد وأخوه عبد الوافي أن والدهما عرض كتاب المعسول على أحد محبيه المراكشيين أو البيضاويين، فاعتذر هذا بأن لا نقود لديه لدفع ثمنه، لأنه يعاني من ضائقة ماليه، فأعطاه العلامة السوسي الكتاب مجانا، ووضع في جزء منه مبلغ 100 درهم ( وهو مبلغ كبير في ذلك الزمان) فلم يكلف ذلك الانسان نفسه عناء تصفح الكتاب ولا مطالعته إلا بعد زمن طويل من وفاة مؤلفه، وعثر على المائة درهم، فندم أشد الندم وقال:
" رحم الله الفقيه، فلم يكفه أن أعطاني الكتاب مجانا، بل أراد رحمه الله أن يساعدني في فك ضائقتي، ولكني أضعت الفرصة، فلو طالعت الكتاب أو تصفحته لوجدت المبلغ المالي وكنت أحوج ما أكون إليه.."
نعم لم يستفد جيل السوسي – إلا قليلا - من كتبه، فحُرِموا إدراك عناصر مشروعه الحضاري والفكري والإصلاحي الاجتماعي، وقد كان هو نفسه يدرك ذلك ويعرف أن هناك حاجزا بينه وبين جيله، من علماء سوس خاصة وعلماء المغرب عامة، فقال قولته المشهورة:
"  نحن نوقن أنه سيأتي يوم يثور فيه أولادنا أو أحفادنا ثورة عنيفة ضد كل ما لا يمت إلى غير ما لآبائهم من النافع المحمود ، ثم يحاولون مراجعة تاريخهم ليستقوا منه كل ما في إمكانهم استدراكه . فلهؤلاء يجب على من وفقه الله من أبناء اليوم أن يسعى في إيجاد المواد الخام لهم في كل ناحية من النواحي التي تندثر بين أعيننا اليوم، وما ذلك إلا بإيجاد مراجع للتاريخ يسجل فيها عن أمس كل ما يمكن من الأخبار والعادات والأعمال والمحافظة على المثل العليا.” ( المعسول 1/د)
فهم السوسي أن كثيرا من أبناء جيله، وأبنائهم لن يدركوا قيمة المعسول، ولن يعرفوا مراميه وأهدافه ولن يكونوا في حاجة إليه، لمواجهة واقعهم المر، والاستعانة بأفكاره ومضامينه لمقارعة الفكر الوافد الذي سيجتاح مجتمعهم فيطوح بكل ثوابته، ويُداهم الناس في بيوتهم وغرفهم، بل ويخلخل أفكارهم ويشكك في عقائدهم.. لذلك قال قولته هذه، فكانت كتبه، بمثابة عزير عليه السلام لبني إسرائيل، حينما بعثه الله بعد مائة سنة من موته، حافظا للتوراة محافظا عليها فبلغها الأجيال اللاحقة بعد أن أصابها التحريف ونسيها الناس وانغمسوا في المفاسد، فكذلك كتب العلامة السوسي حفظت تراث الأمة، وخلدت صوره، ناطقة بما كان عليه الناس في الماضي، من صلاح وطلاح، ليكون ذلك درسا للأجيال فتميز في تاريخها بين ما ينفع فتأخذه، وبين غيره فتطرحه بل تطوح به بعيدا.
ولعل مما يُصدق فراسة العلامة السوسي أن التأليف على النهج الذي اختطه وانتهجه قد توقف بعد وفاته، فلم نر لمؤلف سوسي كتابا يجمع تراجم العلماء والصلحاء والرؤساء، أو يعتني بجمع تراث المنطقة العلمي والأدبي.. بل ساد صمت مريب، واشتغل الناس بخويصة أنفسهم، ولم يعدُ الاهتمام بالعلامة السوسي إلا بضع تكريمات و مقالات سرعان ما خفت صوتها وخبا نورها، ولم نجد من التفت إلى البحث في سيرته وعلمه ومنجزاته إلا بعد أزيد من عشرين سنة من وفاته، حينما قدم الأستاذ الفاضل الدكتور محمد خليل رسالته لنيل دبلوم الدراسات العليا في الآداب للمناقشة بإشراف الدكتور عباس الجراري حفظه الله، سنة 1984، لقد كانت هذه السنة وهذا الحدث ذا مغزى عميق، وتصادف ذلك مع إقدام أبناء العلامة السوسي البررة على إخراج بعض مؤلفاته في موجة أولى تضمنت كتبا مثل ( طاقة ريحان من روضة الأفنان، وذكريات، وحول مائدة الغذاء، ورجالات العلم العربي في سوس، ومدارس سوس العتيقة، ومعتقل الصحراء الجزء 1..وغيرها)
فأنعش ذلك أعمال العلامة السوسي والتفت الناس إليها، ففرحت طائفة من الناس، وقرحت طائفة، وقال العلامة المنوني رحمه الله قولته المشهورة:
" لا يريد الفقيه أن يموت، كما يشتهي بعض الناس، بل ينبعث ذكره في كل وقت وحين."
لقد كان الذي التفت إلى تراث السوسي، وأقبل على استثماره والاستفادة منه – خاصة في منطقة سوس - هو جيل الأبناء والحفدة فيما بعد، ثم توالت الدراسات والأبحاث ومازالت تترى معدودة، ولكنها رصينة متثبتة تتناول جوانب مهمة من هذا التراث المغربي الخالد، لتمكن الأجيال الجديدة كما القديمة من اكتشاف العلامة السوسي وتراثه الغزير، المنطلق من سوس من حيث مجال دراسته، ولكنه مع ذلك معتمد على العقيدة الاسلامية ومستند إليها، ومتسم بالإنسانية والتجرد من كل صفات العصبية الضيقة، أو التنطع الممجوج، فسار قويا باهرا، ساميا وطنيا إسلاميا عزيزا كريما، وما يزال..
وها هي السنة الخمسون تمر على وفاة هذا العلامة الفذ، ومازال ذكره في الأفواه والآذان وسيرته العطرة تذكر وتشكر بكل لسان، وما زال أبناؤه البررة ساهرين على صيانه تراثه، وعلى نشره وإخراجه إلى الناس غضا طريا كأنما كتب منذ سويعات، وكأن العلامة السوسي هو من يشرف على إخراجه، متنقلا بين بيته في حي الطيارات وبين المطبعة، صارفا وقته بين المراجعة والتصحيح والتدقيق.
خلال هذه السنوات الخمسين تغيرت أشياء كثيرة في المغرب، وتنقل المغاربة من طور إلى طور ومن حال إلى حال، وتقلبت بهم الأيام كما تقلبت بغيرهم من الأمم والشعوب، ولكنهم أدركوا بفضل أعمال العلامة السوسي وأقرانه من العلماء الوطنيين المخلصين أن لهم نسبا في الحضارة يذكر، ومنجزا في الفكر لا لا ينكر، وتميزا بين الأقوام ظاهرا بارزا لا يخفى، فصار مثقفو الأمة الآن، المستنيرون الذين يرون ما وراء الأفق، ويستشفون خبايا الدهر وتحولاته، يستنتجون أن  للمغاربة خصوصية تميزهم عن غيرهم من أمم الشرق أو الغرب، ومستند تلك الخصوصية طبيعتهم الجِبِلّيّة التي تقبل الاختلاف في إطار الوحدة، والتنوع المؤدي إلى الغنى الفكري، وأصلهم التاريخي المتنوع المنسجم، وعقيدتهم السمحة، ومذهبهم الفقهي المبني على العزم والحزم والتشبث بالقرآن الكريم والسنة النبوية والعض بالنواجد على السيرة النبوية العطرة وعلى سير الصحابة المكرمين وتابعيهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والتمسك بالعقيدة الإسلامية عقيدة التوحيد النقية الصافية التي لا تدنسها أباطيل المبطلين ولا تشكيك الملحدين، عقيدة التوحيد المصانة بالأدلة النقلية والعقلية، في غير تفلسف مغال ولا سذاجة مفرّطة.. والتشوف لإعلاء فكرة الإيمان إلى مرتبة الإحسان بالمقام العملي، الذي يُنزِّل الأفكار إلى دنيا الناس ترسيخا ونشرا، ويدمجها في الواقع الاجتماعي تقربا إلى الله وتعبدا، فلا انزواء عن الناس ولا تقوقع ولا ذوبان في دنيا المطامع ولا تفسخ، ولكن نفع وانتفاع وسعي إلى المصلحة العامة وتضحية وجهاد.. شهد بذلك كله تاريخ المغرب والمغاربة، في تلاؤمهم وتوادهم وتراحمهم، وشعورهم بالمسؤولية الجماعية في صيانة هذا الوطن وعقيدته وثوابته الشرعية وأسسه الوطنية.
نعم لقد ترسخ هذا الاستنتاج عند كثير من مثقفينا – والحمد لله – وأصبحوا يعبرون عنه في كتاباتهم ودروسهم وأحاديثهم، وأصبح كلامهم كله ملخصا في عبارة واحدة، ليس على المغرب ولا المغاربة أن يكونوا شرقيين ولا غربيين، ولكن أن يكونوا مغاربة لا يولون وجوههم قِبَل إيديولوجيات وافدة من هنا أو هناك، ولكن لتكن وجهتهم تراثهم الغني الزاخر الذي بنى الحضارات وأسس الدول والإمارات واستنارت الدنيا بنوره حتى أضاء أعماق أوربا ومجاهل إفريقيا وامتدت أشعته شرقا وغربا فبلغت ما شاء الله لها أن تبلغ، ولتكن وجهتهم استلهام فهم أجدادهم للعقيدة والدين، وحيويتَهم في محبتهم للعيش وإبداعهم في فنونه وأساليبه، وإحسانهم تدبير جميع أمورهم في إبداع وابتكار منقطع النظير.. كانت وجهته دائما لله، ومقصده إرضاءه وإرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا كله مع الانفتاح على العصر بلا جمود أو جحود، إذ إن التشبع بروح الحضارة المغربية وقيمها، يمنع من الانسلاخ عن الهوية، والانسياق مع الأمم وأفكارها والدول ومصالحها، فيبقى المغربي عزيزا لا ذليلا، ومنصورا لا منهزما..
هذا هو تراث السوسي – كما تراث غيره من علماء المغرب الوطنيين الغيُر- تراث حيّ زاخر، يقرن القول بالتصرف  ويحوّل العقيدة إلى عمل، ويستشف من حياة الأجداد عبر القرون عِبرا تُغني ولا تُفقر، وتُدني من النجاح والتوفيق ولا تبعد. ولهذا يجب أن يدرّس التراث ويستثمر، ونحن أحوج ما نكون إليه في زمن العولمة والاتصال والتواصل السريع، وانتقال الأفكار والأحداث بسرعات قياسية لم تشهد لها البشرية مثيلا من قبل، وتسارعت فيه الأحداث وتكاثرت الفتن المدلهمة كقطع الليل المظلم، ويلتهب أتونها الهائل، فيهلك فيها من يهلك عن غير هدى ولا بينة، ومن ورائهم أياد أثيمة، تزيد النار اشتعالا والأتون ضراما لتأتي على الضرع والزرع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
نعم لقد أصبح التراث المغربي حاضرا في حياتنا، بالرغم من إصرار كثيرين على إبعاده، وعمل كثيرين بدأب على وأده، وقد انثال المغاربة – والحمد لله - في العقود الأخير على تراثهم، فأقبلوا على دراسته واستنطاقه وعلى تحليل حياة أعلامهم وتخليدها، ومؤلفاتهم ونشرها، وإن كان بعضهم لمّا يستطع التفريق بين النافع والضار من كل ذلك.
إن الفضل في ذلك الإقبال هو لرياح العولمة العاتية التي ما فتئت تهب على بلدنا عاصفة مدمرة، تدفع الناس إلى الاحتماء منها حتى لا يفقدوا حياتهم – وهل حياة الناس إلا هويتهم وكينونتهم – بالبحث عن خصوصياتهم والتشبث بها، والتمييز بين التشبث بالخصوصية المحلية واللغوية والاجتماعية، وبين التقوقع والتعصب والتشرذم، وقد أدرك المغاربة بذكائهم الفطري أن التوازن ضروري في هذا المقام، وأن الوسط مطلوب في كل أحواله، فلا تقوقع ولا تعصب لخصيصة محلية اجتماعية أو لغوية، ولا ميوعة بالذوبان في خصائص الآخرين اللغوية أو الحضارية أو الاجتماعية أو الدينية، فنحن مع الغير المخالف في العقيدة على طرفي الندية الحضارية، لا ينبغي أن نأخذ منه إلا ما نفع ووافق العقيدة والأخلاق والخصوصيات الوطنية، ونحن مع الآخر المؤالف في الدين على طرفي أخوة، نتعاون فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا البعض في ما اختلفنا عليه، فلا يحقرنا ولا يسفهنا ولا ينبذنا، وإلا نبذناه على سواء..
نعم إن المغاربة يتفاوتون في هذا الإدراك وهذا الفهم ولكنه فهم ظاهر بارز بالرغم من مظاهر العولمة الفكرية التي استبدت بالديار، والانسلاخ العقدي والفكري الذي يبدو في الظاهر، والمسخ اللغوي الذي انتشر على الألسنة، ولكن كل ذلك إنما هو أدران متراكمة على معدن الأمة النقي الوضاء، فلا تفتأ المناسبات متتالية تبين أن معدن هذا البلد نقي ثمين لا تنال الأدران من صفائه ولا نقاوته ولا نفاسته وإن تراكمت عليه ما تراكمت على طول الأيام والسنين والدهور، فما أن ينظف الأصل وتتخلله مياه العقيدة الرقراقة النقية الطاهرة المطهرة حتى يعود إلى أصله الأول نقيا تقيا وضاء مستنيرا، كما كان في عهود النصر والقوة عهود إدريس بن عبد الله ويوسف بن تاشفين ويعقوب المنصور وأبي عنان وأحمد المنصور وإسماعيل بن علي الشريف ومحمد بن يوسف رحم الله الجميع..
وبعد فهذه الذكرى الخمسون قد حلت.. فماذا أعددنا لها، وكيف نستقبل ذكرى العلامة السوسي، الذي وإن سمي سوسيا فهو مغربي القلب والقالب إسلامي العقيدة إنساني النزعة، متشبث بأصله وخصوصيته المحلية في غير تعصب ولا تنطع، ومتعصب للقرآن ولغته في غير قومية ولا شعوبية.. فقوام حياته كلها الوسطية والتوازن، وهو ما لا يتحقق لكثير من الناس الذين لم يستطيعوا خلال حياتهم أن يتعلموا كيف يمشون أسوياء على صراط مستقيم، فيقبلون و يردون على هدى وبيّنة، فأنى لهم أن يدركوا الوسط والوسطية، وأنى لهم التوازن وهم عند أدنى هبّة نسيم يسقطون..
تأتي هذه الذكرى ونفوسنا تهفو إلى الاحتفاء بالعلامة رضى الله، شكرا لأياديه واستذكارا لحياته وانتفاعا بعلمه، لنقول بلسان الحال ما سبق أن قاله الشاعر الفحل مُحمد العثماني بلسان المقال في قصيدته الفارسية، حين أنشد:


ماذا أعددنا لتذكر العلامة السوسي، وما تَذكّره إلا الاحتفاء بأفكاره ومبادئه وبنات قلمه، بإحياء فكر الأمة وتجديد الصلة بالتراث، وبعث أمجاد الأجداد، فلعل الله تعالى ييسر ملتقى بل ملتقيات لمزيد من دراسة  فكر هذا العلامة الفذ القليل النظير وتحليله وتعميق البحث فيه، ونشر ما تبقى من مؤلفاته بيد أبنائه البررة الذين مازالوا على قيد الحياة، وقد توفي منهم اثنان سعيد وعبد العزيز، رحمهما الله وبارك في الأحياء، وإعادة نشر ما طبع منذ أزيد من خمسين سنة من الكتب، وقد أصبحت في حكم النادر القليل الوجود.
تأتي هذه الذكرى إذن وكتب السوسي تصدر تباعا في موجة ثانية بهمة أبنائه البررة وعلى رأسهم الأستاذ عبد الوافي رضى الله، وبدعم المحسن الغيور الحاج إبراهيم وباعوس الإفراني، فأخرجا لنا كتبا نفيسة مثل الجزء الثاني من معتقل الصحراء، والسيرة الذاتية، والرؤساء السوسيون، ومشيخة الإلغيين، والجامعة الوگاگية، وقطائف اللطائف والثريدة المناغية للعصيدة وديوان الشيخ الإلغي.. وغيرها كثيرا، كما تأتي هذه الذكرى وقد عقدت ندوات وملتقيات حول حياة العلامة شيخ الجماعة وحول فكره ومؤلفاته، كما أنشئ على الشبكة العالمية للمعلومات موقع مهم جدا لنشر أفكاره ونبذ مما كتب بيراعه وما كتب عنه وتسجيلات لبعض أحاديثه الإذاعية ومرئية لندوات نظمت عنه في مختلف مدن المغرب الحبيب، كل ذلك بإشراف ابنه السيد أحمد رضى الله، الذي له طموح عريض في تطوير الموقع ليكون جامعا لتراث والده ومشعا بأنوار فكره، كما يطمح لتأسيس متحف يضم تراثه المادي والمعنوي ليكون مرجعا للمهتمين وعموم المواطنين.
       فهذان ابنا العلامة السوسي قد بقيا وفيين لتراث والدهما وفاء قل نظيره بين أبناء العلماء المغاربة من جميع الأجيال، فاستمرا بصبر ودأب عجيبين على مدى عقود في الإعداد والتنسيق والمراجعة والطبع، وأصرا على إحياء ذكرى الوالد الفذ في كل وقت وحين، ونشر فكره بين الناس، وكان ثالثهما المرحوم بكرم الله ابن عمهما الأستاذ عبد الله درقاوي، الذي كان له الفضل في نشر تراث العلامة السوسي في الجامعة المغربية، فرحم الله همته وجزاه خيرا وبارك في خلفه.
       رحم الله العلامة السوسي رحمة واسعة، فهو وإن ماتت نفسه لم تمت روحه، وإن انقرض جسده لم ينقرض علمه، وإن ذهبت صورته لم تذهب كتبه التي ما أن تفتحها حتى تجد مؤلفها متحدثا نشيطا، مناقشا مستفهما ومجادلا بالتي هي أحسن ومبينا ومحللا ومبرهنا.. كما تجده تارة ضاحكا مستبشرا.. وتجده أخرى حزينا دامع العين باكيا، وهو في كلتا الحالتين – كما في جميع أحواله – يجعل العقيدة شعاره، والإصلاح دثاره، لا يفتأ يدعو الأمة إلى اليقظة والتنبه إلى ما يلحقها من تهاون في العلم أو تكاسل في العمل. لا يفتأ مشجعا مستنهضا الهمم لتسلق ذرى المجد السامقة وقنن الحضارة الشاهقة، فرحمه الله من غيور أبيّ ومن شهم نبيل النفس رضيّ، وبوأه الله جنات النعيم في أعلى عليين، ليحظى بمرافقة النبي الكريم سيدنا محمد خير مبعوث وأفضل رسول صلى الله عليه وسلم تسليما دائما كثيرا.
-------------
1- نظم الشاعر الأديب محمد العثماني هذه القصيدة في أوائل سنوات الثمانين بعد مرور 20 سنة على وفاة العلامة السوسي، وأنشدها في ندوة نظمها فرع رابطة علماء المغرب في تزنيت سنة 1983.

ليست هناك تعليقات: