بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 20 ديسمبر 2013

إصدار جديد بمناسبة خمسينية العلامة محمد المختار السوسي: "لب الفوائد.."


صدر يومه الجمعة 16 صفر الخير 1435 موافق 20 دجنبر 2013 عن مطبعة المعارف الجديدة بالرباط كتاب جديد بمناسبة خمسينية العلامة محمد المختار السوسي رحمه الله بعنوان " لب الفوائد فيما قيل عن العلامة رضى الله محمد المختار السوسي من كلمات وقصائد"، تضمن مجريات التأبين المقام بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاته والذي نظمته رابطة علماء المغرب يوم الأحد 29 جنبر 1963، وقد أشرف على إخراج هذا الكتاب المميز نجل المحتفى به الأستاذ عبد الوافي رضى الله، حينما تصدى بصبر وأناة لجمع الكلمات والقصائد التي قيلت بالمناسبة وتصنيفها وتصحيحها ونشرها في هذا السفر النفيس، وقد ألح علي الأخ الفاضل الكريم ناشر الكتاب في تسويد الصفحات بذكر انطباعي عن الكتاب ومناسبة صدوره، فاستحييت أن أرد طلبه، فحررت أسطرا أذكر فيها مشاعري بالمناسبة مناسبة صدور الكتاب ومناسبة ذكرى مرور خمسين سنة على وفاة المحتفى به رحمه الله، فها هو المكتوب، الذي تولى الناشر نشره آخر الكتاب، وقبله معلومات عن الكتاب، والله ولي الصواب.
عنوان الكتاب: لب الفوائد فيما قيل في تأبين العلامة رضى الله محمد المختار السوسي من كلمات وقصائد.
الناشر: عبد الوافي رضى الله بن محمد المختار السوسي، الساهر على نشر تراث والده.
عدد الصفحات:584.
المطبعة: المعارف الجديدة، الرباط
التاريخ: 1435/2013.

وهذا نص التقريظ:

من وحي " لب الفوائد.."

هذا كتاب مفرح مُسَرّ، ومحزن مبك في آن معا، مفرح مسر بالشهادات التي قدمها نخبة من نجوم الفكر المغربي الخلاق، وطائفة ربانية من أساتذة المعارف في المغرب الحديث، وجماعة من أرباب الأدب والإبداع الأصيل، وكوكبة طيبة مباركة من رفاق العلامة السوسي في النضال الوطني وزملائه في العمل التدريسي التعليمي، وأقرانه في التأليف والبحث العلمي، من مختلف مناطق المغرب بل من خارجه من العراق والشام وشبه الجزيرة العربية .. فأدوا ما رأوه منه من خصال وخلال، وما شهدوه من أفعال وأعمال، بما يشهد له بحسن السيرة، وكمال الخلق، وطيب السريرة، ونبل النفس، وعلو الهمّة..
كما أن الكتاب محزن مبك لما في ثناياه من أنات مستورة، وبكاء مكتوم، تنضح به كتابات الكاتبين وأبيات الشعراء الناظمين، تصور عظم المصيبة بالعلامة المختار، حينما فقده المغاربة والمغرب في زمن أحوج ما يكونون إلى علمه وحكمته، وخلقه وشهامته، وزهده وتضحياته.. فلو بقي المختار حيا بعد هذا التاريخ لكان وكان.. ولكن "لو" تفتح عمل الشيطان، وقدر الله نافذ على كل حال ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
مات العلامة المختار.. انقطع عن الدنيا، ولكن لم ينته علمه فهو باق بعده، بل مستمر بما قدّم للأمة من أعمال فذة صاغها بعقله الواعي وفكره السديد وسريرته الطيبة، وذكائه الوقّاد، وطموحه الوثّاب، فمازالت أعماله تنال يوما بعد يوم ما تستحق من اهتمام، وينثال الباحثون والمهتمون زرافات ووحدانا لمطالعتها والتمعن فيما حوته من معاني وأفكار وفوائد وأخبار..
وكما استمر علمه، استمر أبناؤه بعده مهتمين بمؤلفاته، يصونون المخطوط منها حتى لا تصل إليه يد الإهمال أو الضياع، باذلين ما استطاعوا من أجل نشره وإخراجه في أحسن حلة وأفضل طبعة،  معتكفين على ذلك يجعلونه ديدنهم وهجيراهم، طوال سنين مضت، حتى صارت مؤلفات والدهم المرحوم بكرم الله إن شاء الله - تثرى سنة بعد سنة تغني المكتبة المغربية والعربية الإسلامية، على اختلاف مجالاتها وتنوع اهتماماتها، وحتى صار اسم العلامة المختار بفضل هذا الإصرار العجيب على استكمال إخراج كافة مؤلفاته ملء السمع والبصر، وحديث كل ذي فكر وثقافة.. وأكاد أجزم أنه لم يوجد في تاريخ المغرب الحديث أبناء عالم بذلوا ما بذله أنجال العلامة المختار في سبيل إخراج التراث الضخم لوالدهم من جهود منذ أصدروا أول كتاب له في سنوات الثمانين من القرن الماضي حتى سنتنا هذه.
لم يمت العلامة المختار وهو في كل سنة يخاطبنا عبر كتاب أو كتابين من مؤلفاته، فتارة يحدثنا عن تاريخ المغرب ومجرياته، وأعلامه وذكرياتهم، وتارة يخبرنا عن شيوخه الحضريين أو السوسيين، وعن زملائه من العلماء الربانيين وتلاميذه من الطلبة المستنيرين، وتارة عن الرؤساء السوسيين، أو عن المعتقلين الوطنيين، حتى إذا رأى الملل يمد يديه إلينا، مال بنا إلى الفكاهة المفيدة والمرح المجمّ للفؤاد المنشط للفكر، فقرأ علينا ما سمع من الشيوخ من لطائف وما قرأ في كتب السوسيين من طرائف، وحدثنا عن العصائد والثرائد.. ونحن من كل ذلك مستفيدون، وبكلامه المعسول مستمتعون.. فمن يصدق بعد كل هذا أن المختار قد مات.. ؟
ثم هذا " لبّ الفوائد.." يصدر في هذه الحلة القشيبة الزاهية ولو أنه متشح بالحزن.. حزن الرفاق والزملاء والأحبة والأقربين لفراق المختار، حينما اختاره الله لجواره رحمه الله، فأظهروا من أحواله الغراء ما كان مستورا، ومن علمه الثر ما كان محجوبا عن كثير من معاصريه، ومن محبة الناس له ما كان مجهولا، حتى لقد كان عوام الناس يعزون بعضهم بعضا في وفاته، ويبكون حرقة فراقه.
 قرأت " اللب" فإذا به شهادات صادقة وكلمات دقيقة، يصف كل كاتب من كتّابها جانبا يعرفه عن العلامة المختار من زهده وورعه، ووطنيته ونضاله، وتدينه الصادق وورعه الخالص، وإنسانيته المفرطة، وحنانه الفياض، وعلمه الواسع وفكره العميق، وصبره وأناته، وحماسه الوثّاب، وإخلاصه الثابت..
لقد أطلق المشاركون في التأبين العنان لأفكارهم وعواطفهم، وقد كانوا يدركون أنهم يقدمون شهادة للتاريخ، ينبغي أن يوفوها حقها، ويكتبوا لمن سيأتون من الأحفاد على منهج السوسي نفسه ما سيحتاجونه للتعرف على صاحب المعسول وأخوات المعسول من مواقف وأحداث، وقد خبروه وعرفوه من خلال مرافقته سنين عديدة وعقودا مديدة..
لم يكن كلام المتحدثين ولا شعر الشعراء المبدعين إطراء في غير مكانه ولا ثناء مبالغا فيه، وإنما استدل الناثرون على وقائع ذكروها، ومواقف سردوها، واعتمد الشعراء عاطفة صادقة فيّاضة صدروا عنها، فوصل ما نثر الناثرون إلى العقول بالحجج فأقنعها، وبالأدلة الظاهرة فأخضعها، واتصل شعر الشعراء بالقلوب فأثر فيها، فكان من أعظم منن هذا الكتاب أن صوّر شخصية العلامة المختار من خلال أصدقائه، وهم نخبة من العظماء المحترمين في تاريخ المغرب الحديث، من العلماء والفقهاء وكبار المثقفين والمفكرين والكتاب، بل من نبغاء البلاد العربية والإسلامية. ولعل أكثر ما يؤسف له أن يتأخر طبع الكتاب إلى هذا الزمن.. وقد قيل ما قيل وكتب ما كتب.. منذ  خمسين سنة.. ولو طبع الكتاب في إبانه لكان له أثر عميق في التعريف بهذا العلم الفذ وإبراز فكره وبيان عمله ومنجزاته.
أخبرني أحد الأساتذة المحترمين الذين أعرفهم، فقال:
" لو قرأت ما كتب العلامة السوسي منذ ثلاثين سنة، لتغيرت نظرتي إلى الأمور بكيفية جذرية، ولو اطلعت على فكره لتغيرت حياتي كلية.. ولكن ذلك تأخر كثيرا فلم يبق لي إلا الأسف على ما ضاع مني من فرص.."
سألت نفسي وأنا أسمع كلام هذا الأستاذ المحترم: "هل نحن قوم الفرص الضائعة؟؟ في التعرف على العلامة المختار وعلى فكره؟؟ ومن الاستفادة من تصوراته ونظرته الإصلاحية ؟؟ وعلى النهل من فكر جيله الوطني المخلص؟؟" وعلى الاستفادة من تراث ماضينا القريب والبعيد؟؟
لعل صدور الكتاب يجيب عن بعض هذه الأسئلة، ومن قرأ  ما ورد فيه من كلمات، وأنشد ما سطّر فيه من أشعار، سيقرأ للمشاركين في التأبين مواقف عبروا عنها، وأفكارا أعلنوها، وتحذيرات أطلقوها، وأخطارا نبهوا إليها في تلك المرحلة الدقيقة من تاريخ المغرب المستقل، المغرب الباحث عن شخصيته وخصوصيته، الطامح إلى الارتباط بحضارته ومجده التليد، المتطلع إلى تحقيق النهضة الشاملة والتنمية المنشودة، وذلك كله كان شغل العلامة المختار وهمّه يبثه لأودائه من كل صديق وكل رفيق وكل طالب مخلص نبيه.. ويعلنه في أحاديثه الإذاعية وفي لقاءاته العامة وفي مؤلفاته الكثيرة.
لقد تابعت أخبار نشأة هذا الكتاب وتجمع أجزائه منذ كان "كلمات" معدودة، وجدها الأستاذ عبد الوافي رضى الله في أضابير خزانة والده، فأخرجها من صوانه، وانصرف إلى ترتيبها وقراءتها وتصحيحها، ثم انطلق بما رزق من صبر وأناة ودأب، للبحث عن ما نقص من إسهامات في التأبين لدى من بقي من الرعيل الأول المشارك في الحفل، يسأل ويستفسر، ويجمع وينقب، ويقابل ويوفّق، فكم من مخطوطة مبتورة مختلطة أخرج،  وكم من مرقونة مضطربة غامضة استخرج، حتى تجمّع له أغلب ما ألقي في ذلك الحفل المهيب، فتتبعه تشذيبا وتوضيحا، وتصويبا وضبطا وتحقيقا، وحتى وصل إلى هذه الصورة التي نراه عليها الآن بين أيدينا، كتابا تامّا جامعا لسجلّ تلك الأمسية الحزينة من أيام دجنبر عام 1964.
حينما نفتح الكتاب ونقرأ ما دوّن بين دفتيه نشعر بأننا نسافر في الزمن، إلى زمن المختار وأصدقاء المختار وأهل المختار ومحبي المختار، إلى ذلك الفجر النديّ الذي أحيته نفوس طيبة مؤمنة تبكي المختار وفراقه، وتذرف الدمع على غيابه، فلا ننفك نشاركها الحزن والألم الممض، فيا لله كيف تحيي أنّات الصادقين الأحزان، وكيف تكهرب قوافي الشعراء الصادقين عواطف الأحفاد ليبكوا فراق أحد أجدادهم وكأنه توفي البارحة، بينما كانوا إبان وفاته خلف سجف الغيب المستور.
غير أن المقصود من الكتاب ليس الحزن والكآبة ولا البكاء والعويل وإنما ليعرف اللاحقون كيف كان السابقون ينظرون إلى العلامة المختار ويقدرونه ويحترمونه، وكيف ينبغي للأحفاد أن يستفيدوا من تراث أجدادهم، لا بتقديسه والتبرك به، ولكن بالتفاعل معه، وإعمال الفكر في الاستفادة منه، وتلمس المناهج السديدة في البحث عن الفائدة منه بلا جمود ولا جحود، فهكذا كان العلامة المختار نفسه، يأخذ ويترك ويقبل ويرد على بينة ووفق دليل، وما دليله إلا الشرع الحنيف ومصلحة الأمة، وهما والحمد لله مجتمعتان لا تفترقان إذ "المصلحة المحافظة على مقصود الشرع" كما قال أبو حامد الغزالي.
فهنيئا لنا صدور هذا الكتاب، الذي يجدد ذكرى العلامة المختار بعد خمسين سنة من وفاته، ليلتحم تأبين الأجداد بذكرى الأحفاد، ويتآلف الجميع على الاحتفاء بالعلم وأهله من العلماء، فالعلماء هم الذين أقاموا الدين والدولة في المغرب، وهم الذين بنوا شرعيتها، وأسسوها على ثوابت واضحة راسخة لا تتزلزل بإذن الله، حينما قصدوا وجه الله بأعمالهم، وحرصوا على وحدة الأمة وأمن الناس، وربطوا مصير البلاد بإقامة الدين، وبنوا ذلك على البيعة الشرعية المحمية بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحصنوا البلاد من الفتن والبغي، وصانوها بالوحدة تحت ظل إمارة المؤمنين تحميها من عواصف الأزمنة وزلازل الأهواء والمؤامرات، لتستمر سفينة هذا البلد الأمين بفضل الله وبفضل عقيدة التوحيد وبركة القرآن الكريم وسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، تمخر عباب الزمن بإذن ربها آمنة مطمئنة بالرغم من مكر الماكرين.
وها نحن بعد خمسين من وفاة العلامة المختار، نكتشف ما سبق أن سطره في كتبه وأسفاره، وما دبجه في قصائده وأنظامه، أن للمغرب والمغاربة خصوصية تجعلهم مختلفين عن غيرهم من أمم الشرق والغرب، فلهم خصوصيتهم الفكرية والعقدية والدينية ولهم وحدتهم واتحادهم، ولهم تنوعهم الثقافي واللغوي، ولهم عاداتهم وتقاليدهم التي لا تصادم الشرع، ولهم ارتباطهم بتاريخهم المجيد وتراثهم التليد وحضارتهم العريقة، ولهم ثوابتهم الشرعية والوطنية التي تحميهم وتحفظهم، فلا مستقبل لهم إلا في اعتصامهم بما لأجدادهم من تدين وورع وعلم ومعرفة، ولا حياة لهم في الانحلال من أصولهم الثابتة عبر التاريخ، فذلك لا يؤديهم إلا إلى الدمار والهلاك، فلا انقطاع عن الآخر الموافق ولا اندماج بلا حدود في الغير المخالف، ولكن بصيرة وتبصر وإدراك لحدود الاستفادة ومحاذير التقليد.
لقد كان العلامة المختار يدرك أن زمنا قريبا سيأتي سيشعر فيه الأحفاد بالحاجة الملحة للاستمداد من تراث الأجداد، فبذل جهده في جمع ذلك التراث وحفظه، سيرا على منوال من سبقه ثم من عاصره من علماء المغرب العظام ومؤلفيه الكبار، ليجد الأحفاد ما هم في حاجة إليه يوم يشعرون بأن ماضيهم المجيد دليلهم لمستقبل مشرق، حينما يتأملون سير السابقين من سلفهم ليقتبسوا منها ما عسى أن يضيء أيامهم في ليالي الظلمات الحوالك، وهل هناك ظلمات أحلك من هذه الفتن المدلهمة التي ترتكس فيها بلاد العربية والإسلام في أيمنا هذه؟
نعم ها نحن نرى الآن كيف صار المفكرون في بلادنا يرفعون أصواتهم بضرورة الارتباط بالتراث الفكري والثقافي المغربي، وكيف يتنادون إلى النهل من فكر الأجداد، ويرون ذلك ملاذا عزيزا منيعا من مدلهمات المستجد من الفتن، وكيف صارت تتقوى أفكار القائلين بأن المغاربة لا يحتاجون لاستيراد تصور  عقدي ولا اتجاه فقهي ولا فكر اجتماعي خارج الأصول الزاخرة الغنية الموروثة عن السلف، مع ضرورة الانفتاح على العصر كما كان الحال دائما عبر التاريخ بأخذ النافع المفيد وطرح ما سواه من البهرج الزائف الذي يغشي بريقه المغشوش الأعين الكليلة، ولا يكون ذلك الخذ إلا بالاعتماد على معيار الوحي الرباني الممثل في القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم على اجتهادات علماء المغرب العظام ومن ماثلهم من أئمة المذهب المالكي ثم الاستفادة من اجتهاد علماء الإسلام.. وتنزيل ذلك كله على الواقع طلبا لمصلحة الأمة وديمومة قوتها ووحدتها..
فمرحى ذكرى المختار، ذكرى مضمخة بطيب التاريخ والتراث المغربي ومجده العريق، معطرة برنات القوافي ونغمات الأوزان، مروقة بمعسول البلاغة والبيان، ذكرى ممتدة في الزمان لا تفتر ولا تنقطع.. تسير لتبلغ مداها من إيقاظ الوسنان وهداية الحيران إلى سبيل الحق والهدى، ففي كل عام يذكر المختار وفي كل عقد يزداد الذكر والاحتفال، به وبأقرانه من عظماء علماء القطر المغربي الشامخ بحول الله - عبر الدهور معبرا عن الإخلاص لله رب العالمين ولنبيه الأمين والمحبة لأمراء وعلماء هذا البلد المكين بفضل الله وقوته ومنه، آمين
والحمد لله رب العالمين



الأحد، 17 نوفمبر 2013

50 سنة بعد وفاة العلامة المختار (الأحد 17 نونبر 1963- الأحد 17 نونبر 2013)


     
 في مثل هذا اليوم باسمه وتاريخه، ومنذ خمسين سنة يوم الأحد 17 نونبر 1963 توفي العلامة المؤرخ الوزير الفقيه الصالح المصلح محمد المختار السوسي، رحل عن هذه الدنيا الفانية إلى دار البقاء، مخلفا عملا صالحا وعلما نافعا وولدا صالحا يدعو له، وذكرا حسنا بل دويا مسموعا في آذان الدهر لا يفتأ متزايدا على مدى الأيام والسنين، وذلك بفضل حسن نيته وصدق طويته في نصح الأمة والعمل على عزتها وقوتها، رحمه الله تعالى وأجزل له المثوبة والأجر وبوأه أعلى عليين مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين، آمين.
إن من يتأمل مجريات حياة العلامة رضى الله، وعصره وما شهده من أحداث، وأعمالَه الجليلة التي أنجزها، سيذكر أن كل ذلك كان قدرا ربانيا شاءت قدرة الحكيم العليم أن تتحقق به نصرة العقيدة، واستمرار التوحيد بهذا البلد الأمين – بفضل الله - ودحر مكر الماكرين ومؤامرات المتآمرين عن هذا البلد الأمين، أدام الله حفظه أبد الآبدين.
لقد يسرت الإرادة الربانية للعلامة السوسي أن ينجز أعمالا جليلة، ويخلد بقلمه تراث الأمة، ويرسم للسوسيين خاصة وللمغاربة جميعا، بالتصريح تارة والتلميح تارة أخرى، سبل الدفاع عن الهوية والنضال من أجل البقاء، وقد استشف من حاضر الاستعمار الذي عاشه، وتحولات المفاهيم والتصورات التي رآها، أن الأمة مقبلة على تحديات جسيمة، وتحولات هائلة مهولة، قد تطيح – لا قدر الله – بما عملت على ترسيخه الأجيال المتوالية، وتضامنت في سبيل بنائه طوائف العلماء والصلحاء والسلاطين وعموم الناس في بلاد المغرب منذ فجر الإسلام بها، فكانت أعماله كلها موجهة لأجل هذا الهدف سواء في التعليم الذي كرس له حياته، أم الأعمال الاجتماعية التي انتدب إليها نفسه أم المسؤوليات التي تحملها، واستعان في ذلك كله بما آتاه الله من ذكاء حاد وفطنة قوية، وذاكرة دقيقة حافظة، وخلق سام، ونفس أبية عزيزة، وثبات مثل رسوخ الجبال، وطموح وثاب لا يقنع بما دون الثريا، وإخلاص لمبدئه ولأسس العقيدة وثوابت الأمة، كما استعان لتحقيق أهدافه بكل ما أتيح له من وسائل اجتماعية مثل وسطه الأسري الماجد ومكانة والده العلمية والصوفية، وعلاقات العائلة الكبرى المتشعبة الكثيرة، ثم مكانته العلمية بعد أن بزغ نوره واشتهر أمره، ثم جاهه الإداري الوزاري بعد الاستقلال، سخر كل ذلك للإصلاح باللسان والقلم، وبالعمل الاجتماعي الفعال، والصبر على التدريس لعقود طويلة انصرف فيها غيره إلى السبل اليسيرة لتحصيل الشهرة وتحقيق المجد والجاه الزائفين بالظهور بصفة الزعماء، وتجييش العواطف ودغدغة الوجدان، دون سند عملي أو علمي..
ومما يؤسف له أن كثيرا من أبناء جيل العلامة السوسي لم يقرأوا المعسول وأخوات المعسول من مؤلفاته، ولم يفهموا مراميَه، ولا مقاصده، ولا استثمروها في توطيد الهوية والتشبث بها، بل إن بعضهم نظر إليها نظرة ضيقة، تنم عن سوء نية أو غيرة أو حسد..
ولعل في ما وقع لأحد أصدقاء العلامة السوسي من المراكشيين دلالة عميقة ومغزى ظاهر يدل على انصراف الناس عن كتب السوسي ومطالعتها والاستفادة منها، فقد ذكر لي ابناه الفاضلان السيدان أحمد وأخوه عبد الوافي أن والدهما عرض كتاب المعسول على أحد محبيه المراكشيين أو البيضاويين، فاعتذر هذا بأن لا نقود لديه لدفع ثمنه، لأنه يعاني من ضائقة ماليه، فأعطاه العلامة السوسي الكتاب مجانا، ووضع في جزء منه مبلغ 100 درهم ( وهو مبلغ كبير في ذلك الزمان) فلم يكلف ذلك الانسان نفسه عناء تصفح الكتاب ولا مطالعته إلا بعد زمن طويل من وفاة مؤلفه، وعثر على المائة درهم، فندم أشد الندم وقال:
" رحم الله الفقيه، فلم يكفه أن أعطاني الكتاب مجانا، بل أراد رحمه الله أن يساعدني في فك ضائقتي، ولكني أضعت الفرصة، فلو طالعت الكتاب أو تصفحته لوجدت المبلغ المالي وكنت أحوج ما أكون إليه.."
نعم لم يستفد جيل السوسي – إلا قليلا - من كتبه، فحُرِموا إدراك عناصر مشروعه الحضاري والفكري والإصلاحي الاجتماعي، وقد كان هو نفسه يدرك ذلك ويعرف أن هناك حاجزا بينه وبين جيله، من علماء سوس خاصة وعلماء المغرب عامة، فقال قولته المشهورة:
"  نحن نوقن أنه سيأتي يوم يثور فيه أولادنا أو أحفادنا ثورة عنيفة ضد كل ما لا يمت إلى غير ما لآبائهم من النافع المحمود ، ثم يحاولون مراجعة تاريخهم ليستقوا منه كل ما في إمكانهم استدراكه . فلهؤلاء يجب على من وفقه الله من أبناء اليوم أن يسعى في إيجاد المواد الخام لهم في كل ناحية من النواحي التي تندثر بين أعيننا اليوم، وما ذلك إلا بإيجاد مراجع للتاريخ يسجل فيها عن أمس كل ما يمكن من الأخبار والعادات والأعمال والمحافظة على المثل العليا.” ( المعسول 1/د)
فهم السوسي أن كثيرا من أبناء جيله، وأبنائهم لن يدركوا قيمة المعسول، ولن يعرفوا مراميه وأهدافه ولن يكونوا في حاجة إليه، لمواجهة واقعهم المر، والاستعانة بأفكاره ومضامينه لمقارعة الفكر الوافد الذي سيجتاح مجتمعهم فيطوح بكل ثوابته، ويُداهم الناس في بيوتهم وغرفهم، بل ويخلخل أفكارهم ويشكك في عقائدهم.. لذلك قال قولته هذه، فكانت كتبه، بمثابة عزير عليه السلام لبني إسرائيل، حينما بعثه الله بعد مائة سنة من موته، حافظا للتوراة محافظا عليها فبلغها الأجيال اللاحقة بعد أن أصابها التحريف ونسيها الناس وانغمسوا في المفاسد، فكذلك كتب العلامة السوسي حفظت تراث الأمة، وخلدت صوره، ناطقة بما كان عليه الناس في الماضي، من صلاح وطلاح، ليكون ذلك درسا للأجيال فتميز في تاريخها بين ما ينفع فتأخذه، وبين غيره فتطرحه بل تطوح به بعيدا.
ولعل مما يُصدق فراسة العلامة السوسي أن التأليف على النهج الذي اختطه وانتهجه قد توقف بعد وفاته، فلم نر لمؤلف سوسي كتابا يجمع تراجم العلماء والصلحاء والرؤساء، أو يعتني بجمع تراث المنطقة العلمي والأدبي.. بل ساد صمت مريب، واشتغل الناس بخويصة أنفسهم، ولم يعدُ الاهتمام بالعلامة السوسي إلا بضع تكريمات و مقالات سرعان ما خفت صوتها وخبا نورها، ولم نجد من التفت إلى البحث في سيرته وعلمه ومنجزاته إلا بعد أزيد من عشرين سنة من وفاته، حينما قدم الأستاذ الفاضل الدكتور محمد خليل رسالته لنيل دبلوم الدراسات العليا في الآداب للمناقشة بإشراف الدكتور عباس الجراري حفظه الله، سنة 1984، لقد كانت هذه السنة وهذا الحدث ذا مغزى عميق، وتصادف ذلك مع إقدام أبناء العلامة السوسي البررة على إخراج بعض مؤلفاته في موجة أولى تضمنت كتبا مثل ( طاقة ريحان من روضة الأفنان، وذكريات، وحول مائدة الغذاء، ورجالات العلم العربي في سوس، ومدارس سوس العتيقة، ومعتقل الصحراء الجزء 1..وغيرها)
فأنعش ذلك أعمال العلامة السوسي والتفت الناس إليها، ففرحت طائفة من الناس، وقرحت طائفة، وقال العلامة المنوني رحمه الله قولته المشهورة:
" لا يريد الفقيه أن يموت، كما يشتهي بعض الناس، بل ينبعث ذكره في كل وقت وحين."
لقد كان الذي التفت إلى تراث السوسي، وأقبل على استثماره والاستفادة منه – خاصة في منطقة سوس - هو جيل الأبناء والحفدة فيما بعد، ثم توالت الدراسات والأبحاث ومازالت تترى معدودة، ولكنها رصينة متثبتة تتناول جوانب مهمة من هذا التراث المغربي الخالد، لتمكن الأجيال الجديدة كما القديمة من اكتشاف العلامة السوسي وتراثه الغزير، المنطلق من سوس من حيث مجال دراسته، ولكنه مع ذلك معتمد على العقيدة الاسلامية ومستند إليها، ومتسم بالإنسانية والتجرد من كل صفات العصبية الضيقة، أو التنطع الممجوج، فسار قويا باهرا، ساميا وطنيا إسلاميا عزيزا كريما، وما يزال..
وها هي السنة الخمسون تمر على وفاة هذا العلامة الفذ، ومازال ذكره في الأفواه والآذان وسيرته العطرة تذكر وتشكر بكل لسان، وما زال أبناؤه البررة ساهرين على صيانه تراثه، وعلى نشره وإخراجه إلى الناس غضا طريا كأنما كتب منذ سويعات، وكأن العلامة السوسي هو من يشرف على إخراجه، متنقلا بين بيته في حي الطيارات وبين المطبعة، صارفا وقته بين المراجعة والتصحيح والتدقيق.
خلال هذه السنوات الخمسين تغيرت أشياء كثيرة في المغرب، وتنقل المغاربة من طور إلى طور ومن حال إلى حال، وتقلبت بهم الأيام كما تقلبت بغيرهم من الأمم والشعوب، ولكنهم أدركوا بفضل أعمال العلامة السوسي وأقرانه من العلماء الوطنيين المخلصين أن لهم نسبا في الحضارة يذكر، ومنجزا في الفكر لا لا ينكر، وتميزا بين الأقوام ظاهرا بارزا لا يخفى، فصار مثقفو الأمة الآن، المستنيرون الذين يرون ما وراء الأفق، ويستشفون خبايا الدهر وتحولاته، يستنتجون أن  للمغاربة خصوصية تميزهم عن غيرهم من أمم الشرق أو الغرب، ومستند تلك الخصوصية طبيعتهم الجِبِلّيّة التي تقبل الاختلاف في إطار الوحدة، والتنوع المؤدي إلى الغنى الفكري، وأصلهم التاريخي المتنوع المنسجم، وعقيدتهم السمحة، ومذهبهم الفقهي المبني على العزم والحزم والتشبث بالقرآن الكريم والسنة النبوية والعض بالنواجد على السيرة النبوية العطرة وعلى سير الصحابة المكرمين وتابعيهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والتمسك بالعقيدة الإسلامية عقيدة التوحيد النقية الصافية التي لا تدنسها أباطيل المبطلين ولا تشكيك الملحدين، عقيدة التوحيد المصانة بالأدلة النقلية والعقلية، في غير تفلسف مغال ولا سذاجة مفرّطة.. والتشوف لإعلاء فكرة الإيمان إلى مرتبة الإحسان بالمقام العملي، الذي يُنزِّل الأفكار إلى دنيا الناس ترسيخا ونشرا، ويدمجها في الواقع الاجتماعي تقربا إلى الله وتعبدا، فلا انزواء عن الناس ولا تقوقع ولا ذوبان في دنيا المطامع ولا تفسخ، ولكن نفع وانتفاع وسعي إلى المصلحة العامة وتضحية وجهاد.. شهد بذلك كله تاريخ المغرب والمغاربة، في تلاؤمهم وتوادهم وتراحمهم، وشعورهم بالمسؤولية الجماعية في صيانة هذا الوطن وعقيدته وثوابته الشرعية وأسسه الوطنية.
نعم لقد ترسخ هذا الاستنتاج عند كثير من مثقفينا – والحمد لله – وأصبحوا يعبرون عنه في كتاباتهم ودروسهم وأحاديثهم، وأصبح كلامهم كله ملخصا في عبارة واحدة، ليس على المغرب ولا المغاربة أن يكونوا شرقيين ولا غربيين، ولكن أن يكونوا مغاربة لا يولون وجوههم قِبَل إيديولوجيات وافدة من هنا أو هناك، ولكن لتكن وجهتهم تراثهم الغني الزاخر الذي بنى الحضارات وأسس الدول والإمارات واستنارت الدنيا بنوره حتى أضاء أعماق أوربا ومجاهل إفريقيا وامتدت أشعته شرقا وغربا فبلغت ما شاء الله لها أن تبلغ، ولتكن وجهتهم استلهام فهم أجدادهم للعقيدة والدين، وحيويتَهم في محبتهم للعيش وإبداعهم في فنونه وأساليبه، وإحسانهم تدبير جميع أمورهم في إبداع وابتكار منقطع النظير.. كانت وجهته دائما لله، ومقصده إرضاءه وإرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا كله مع الانفتاح على العصر بلا جمود أو جحود، إذ إن التشبع بروح الحضارة المغربية وقيمها، يمنع من الانسلاخ عن الهوية، والانسياق مع الأمم وأفكارها والدول ومصالحها، فيبقى المغربي عزيزا لا ذليلا، ومنصورا لا منهزما..
هذا هو تراث السوسي – كما تراث غيره من علماء المغرب الوطنيين الغيُر- تراث حيّ زاخر، يقرن القول بالتصرف  ويحوّل العقيدة إلى عمل، ويستشف من حياة الأجداد عبر القرون عِبرا تُغني ولا تُفقر، وتُدني من النجاح والتوفيق ولا تبعد. ولهذا يجب أن يدرّس التراث ويستثمر، ونحن أحوج ما نكون إليه في زمن العولمة والاتصال والتواصل السريع، وانتقال الأفكار والأحداث بسرعات قياسية لم تشهد لها البشرية مثيلا من قبل، وتسارعت فيه الأحداث وتكاثرت الفتن المدلهمة كقطع الليل المظلم، ويلتهب أتونها الهائل، فيهلك فيها من يهلك عن غير هدى ولا بينة، ومن ورائهم أياد أثيمة، تزيد النار اشتعالا والأتون ضراما لتأتي على الضرع والزرع، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
نعم لقد أصبح التراث المغربي حاضرا في حياتنا، بالرغم من إصرار كثيرين على إبعاده، وعمل كثيرين بدأب على وأده، وقد انثال المغاربة – والحمد لله - في العقود الأخير على تراثهم، فأقبلوا على دراسته واستنطاقه وعلى تحليل حياة أعلامهم وتخليدها، ومؤلفاتهم ونشرها، وإن كان بعضهم لمّا يستطع التفريق بين النافع والضار من كل ذلك.
إن الفضل في ذلك الإقبال هو لرياح العولمة العاتية التي ما فتئت تهب على بلدنا عاصفة مدمرة، تدفع الناس إلى الاحتماء منها حتى لا يفقدوا حياتهم – وهل حياة الناس إلا هويتهم وكينونتهم – بالبحث عن خصوصياتهم والتشبث بها، والتمييز بين التشبث بالخصوصية المحلية واللغوية والاجتماعية، وبين التقوقع والتعصب والتشرذم، وقد أدرك المغاربة بذكائهم الفطري أن التوازن ضروري في هذا المقام، وأن الوسط مطلوب في كل أحواله، فلا تقوقع ولا تعصب لخصيصة محلية اجتماعية أو لغوية، ولا ميوعة بالذوبان في خصائص الآخرين اللغوية أو الحضارية أو الاجتماعية أو الدينية، فنحن مع الغير المخالف في العقيدة على طرفي الندية الحضارية، لا ينبغي أن نأخذ منه إلا ما نفع ووافق العقيدة والأخلاق والخصوصيات الوطنية، ونحن مع الآخر المؤالف في الدين على طرفي أخوة، نتعاون فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا البعض في ما اختلفنا عليه، فلا يحقرنا ولا يسفهنا ولا ينبذنا، وإلا نبذناه على سواء..
نعم إن المغاربة يتفاوتون في هذا الإدراك وهذا الفهم ولكنه فهم ظاهر بارز بالرغم من مظاهر العولمة الفكرية التي استبدت بالديار، والانسلاخ العقدي والفكري الذي يبدو في الظاهر، والمسخ اللغوي الذي انتشر على الألسنة، ولكن كل ذلك إنما هو أدران متراكمة على معدن الأمة النقي الوضاء، فلا تفتأ المناسبات متتالية تبين أن معدن هذا البلد نقي ثمين لا تنال الأدران من صفائه ولا نقاوته ولا نفاسته وإن تراكمت عليه ما تراكمت على طول الأيام والسنين والدهور، فما أن ينظف الأصل وتتخلله مياه العقيدة الرقراقة النقية الطاهرة المطهرة حتى يعود إلى أصله الأول نقيا تقيا وضاء مستنيرا، كما كان في عهود النصر والقوة عهود إدريس بن عبد الله ويوسف بن تاشفين ويعقوب المنصور وأبي عنان وأحمد المنصور وإسماعيل بن علي الشريف ومحمد بن يوسف رحم الله الجميع..
وبعد فهذه الذكرى الخمسون قد حلت.. فماذا أعددنا لها، وكيف نستقبل ذكرى العلامة السوسي، الذي وإن سمي سوسيا فهو مغربي القلب والقالب إسلامي العقيدة إنساني النزعة، متشبث بأصله وخصوصيته المحلية في غير تعصب ولا تنطع، ومتعصب للقرآن ولغته في غير قومية ولا شعوبية.. فقوام حياته كلها الوسطية والتوازن، وهو ما لا يتحقق لكثير من الناس الذين لم يستطيعوا خلال حياتهم أن يتعلموا كيف يمشون أسوياء على صراط مستقيم، فيقبلون و يردون على هدى وبيّنة، فأنى لهم أن يدركوا الوسط والوسطية، وأنى لهم التوازن وهم عند أدنى هبّة نسيم يسقطون..
تأتي هذه الذكرى ونفوسنا تهفو إلى الاحتفاء بالعلامة رضى الله، شكرا لأياديه واستذكارا لحياته وانتفاعا بعلمه، لنقول بلسان الحال ما سبق أن قاله الشاعر الفحل مُحمد العثماني بلسان المقال في قصيدته الفارسية، حين أنشد:


ماذا أعددنا لتذكر العلامة السوسي، وما تَذكّره إلا الاحتفاء بأفكاره ومبادئه وبنات قلمه، بإحياء فكر الأمة وتجديد الصلة بالتراث، وبعث أمجاد الأجداد، فلعل الله تعالى ييسر ملتقى بل ملتقيات لمزيد من دراسة  فكر هذا العلامة الفذ القليل النظير وتحليله وتعميق البحث فيه، ونشر ما تبقى من مؤلفاته بيد أبنائه البررة الذين مازالوا على قيد الحياة، وقد توفي منهم اثنان سعيد وعبد العزيز، رحمهما الله وبارك في الأحياء، وإعادة نشر ما طبع منذ أزيد من خمسين سنة من الكتب، وقد أصبحت في حكم النادر القليل الوجود.
تأتي هذه الذكرى إذن وكتب السوسي تصدر تباعا في موجة ثانية بهمة أبنائه البررة وعلى رأسهم الأستاذ عبد الوافي رضى الله، وبدعم المحسن الغيور الحاج إبراهيم وباعوس الإفراني، فأخرجا لنا كتبا نفيسة مثل الجزء الثاني من معتقل الصحراء، والسيرة الذاتية، والرؤساء السوسيون، ومشيخة الإلغيين، والجامعة الوگاگية، وقطائف اللطائف والثريدة المناغية للعصيدة وديوان الشيخ الإلغي.. وغيرها كثيرا، كما تأتي هذه الذكرى وقد عقدت ندوات وملتقيات حول حياة العلامة شيخ الجماعة وحول فكره ومؤلفاته، كما أنشئ على الشبكة العالمية للمعلومات موقع مهم جدا لنشر أفكاره ونبذ مما كتب بيراعه وما كتب عنه وتسجيلات لبعض أحاديثه الإذاعية ومرئية لندوات نظمت عنه في مختلف مدن المغرب الحبيب، كل ذلك بإشراف ابنه السيد أحمد رضى الله، الذي له طموح عريض في تطوير الموقع ليكون جامعا لتراث والده ومشعا بأنوار فكره، كما يطمح لتأسيس متحف يضم تراثه المادي والمعنوي ليكون مرجعا للمهتمين وعموم المواطنين.
       فهذان ابنا العلامة السوسي قد بقيا وفيين لتراث والدهما وفاء قل نظيره بين أبناء العلماء المغاربة من جميع الأجيال، فاستمرا بصبر ودأب عجيبين على مدى عقود في الإعداد والتنسيق والمراجعة والطبع، وأصرا على إحياء ذكرى الوالد الفذ في كل وقت وحين، ونشر فكره بين الناس، وكان ثالثهما المرحوم بكرم الله ابن عمهما الأستاذ عبد الله درقاوي، الذي كان له الفضل في نشر تراث العلامة السوسي في الجامعة المغربية، فرحم الله همته وجزاه خيرا وبارك في خلفه.
       رحم الله العلامة السوسي رحمة واسعة، فهو وإن ماتت نفسه لم تمت روحه، وإن انقرض جسده لم ينقرض علمه، وإن ذهبت صورته لم تذهب كتبه التي ما أن تفتحها حتى تجد مؤلفها متحدثا نشيطا، مناقشا مستفهما ومجادلا بالتي هي أحسن ومبينا ومحللا ومبرهنا.. كما تجده تارة ضاحكا مستبشرا.. وتجده أخرى حزينا دامع العين باكيا، وهو في كلتا الحالتين – كما في جميع أحواله – يجعل العقيدة شعاره، والإصلاح دثاره، لا يفتأ يدعو الأمة إلى اليقظة والتنبه إلى ما يلحقها من تهاون في العلم أو تكاسل في العمل. لا يفتأ مشجعا مستنهضا الهمم لتسلق ذرى المجد السامقة وقنن الحضارة الشاهقة، فرحمه الله من غيور أبيّ ومن شهم نبيل النفس رضيّ، وبوأه الله جنات النعيم في أعلى عليين، ليحظى بمرافقة النبي الكريم سيدنا محمد خير مبعوث وأفضل رسول صلى الله عليه وسلم تسليما دائما كثيرا.
-------------
1- نظم الشاعر الأديب محمد العثماني هذه القصيدة في أوائل سنوات الثمانين بعد مرور 20 سنة على وفاة العلامة السوسي، وأنشدها في ندوة نظمها فرع رابطة علماء المغرب في تزنيت سنة 1983.

الاثنين، 19 أغسطس 2013

خبب اليراع تطبيق لأجهزة أندرويد لمتابعة مدونتي


أهدي لكل متتبعي مدونتي خبب اليراع هذا التطبيق للوصول السهل اليسير إلى المدونة انطلاقا من الأجهزة الذكية التي تعمل بنظام اندرويد، مع رجائي للجميع دوام الاستفادة مما فيها من أفكار ونظرات حول التراث والفكر وقضايا العصر، والله الموفق




لتحصيل التطبيق:


ملاحظة: بعد تنزيل التطبيق يوضع على بطاقة الهاتف او بطاقة الذاكرة ويتم تشغيله للتنصيب.

كتاب جديد للعلامة محمد المختار السوسي: قطائف اللطائف في الحكايات والنوادر السوسية


تعودنا في السنوات الأخيرة عادة حميدة تتمثلت في أننا ألفنا أن يتحفنا ابن العم الأستاذ الفاضل الكريم عبد الوافي رضى الله بن محمد المختار السوسي بمؤلفات جديدة تنشر لأول مرة من تراث والده العلامة الكبير، فما نكاد ننتهي من قراءة كتاب وتفهمه والتلذذ بما احتوى من رقيق الأشعار ووفير الأفكار وطيب الأحاديث حتى يخرج إلينا كتابا جديدا في فن آخر من الفنون الكثيرة التي قضى العلامة السوسي حياته في ملء الصحائف بطريف أفكاره فيها وعميق تأملاته منها، ولا أدري أيسر صديقنا الأستاذ عبد الوافي بتعاظم المسؤولية بما تحمله من تعودنا على دوام الإصدارات، أم لا؟ ونحن مع ذلك نشفق عليه من هذه المسؤولية التي تحملها وهذا العبء العظيم الذي نهض به، والذي تنوء به العصبة أولوا القوة، وإن كنا نرى أن الله تعالى قد رزقه من الدأب الإلغي والصبر الجزولي ما يعينه على النهوض بما صمد إليه من نشر تراث والده الزاخر الكثير.. فقد صار بعدما عاشر هذا التراث دهرا طويلا، وقضى عقودا في تقليب أوراقه وتتبع سطوره ومخطوطاته، خبيرا بلحمه وسداه، عارفا بمتونه وطرره.. حتى صار مرجعا يعتمد عليه في البحث عن فكرة أو استخراج نص من هذا المتن العلمي والمعرفي الضخم، وما أكثر ما كنت ألجأ إليه أسأله عن عبارة ومكانها، أو فكرة وسياقها، أو حادثة وسببها، فكان لا يتأخر إلا كما يعود إلى المظان الذي يعرفها، فلا يمر وقت طويل حتى أجده على الهاتف يرشدني إلى الضالة، ويوجهني إلى الغنيمة في أقل وقت وبأيسرجهد.. فجزاه الله خيرا،وما أبره وأبر إخوانه بوالدهم وقد صمدوا إلى ما تعجز عنه المؤسسات وتكل السواعد من نشر تراثه، وجزى الله المحسن السيد الحاج إبراهيم اوباعوس على تصدره لتحمل تكاليف الطبع وسروره بتسخير الله له لإخراج هذا التراث، وتلك مزية يهبها الله من يشاء من عباده، تقبل الله منه..
اما هذا الكتاب الذي يهديه لنا الأستاذ عبد الوافي في صيف هذه السنة، وحرارة القيظ تسري في الجِواء، فكتاب خفيف على الذهن، ممتع للفكر، لائق بفصل الصيف وحرارته اللاهبة، إنه كتاب نوادر ومفاكهات ومباسطات ومضحكات، إنه كتاب مميز مما تهفو النفوس لمطالعته، وتسر القلوب بتصفحه..وكيف لا وهو كتاب لم يقصد الإضحاك التافه ولا الهزل السمج المستند إلى قلة الذوق وضحالة الخلق والذي هو من شأن السوقة وأصحاب السفاسف.. وإنها هو ظرف وأريحية وراءها حكمة وعبرة، وفيها مغزى ودلالة على الحياة الاجتماعية والحالة النفسية لزمن انطوى هو وأهله، ولم يبق من ذكرهم إلا" كباقي الوشم في ظاهر اليد" لولا أن تدراكه العلامة السوسي فسجله في هذا الكتاب القيّم، الذي يدل على اتساع أفق علماء المغرب، وكونهم رجال الدين والدنيا، اكتملت اخلاقهم ونفسياتهم فلم يكونوا رهبان أديرة ولا عبّاد زوايا، بل عاشوا حياتهم بطولها وعرضها وفق الشرع الحنيف، ولم يتركوا جانبا من جوانب الفكر إلا وجاسوا خلاله مستهدين بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، أقول هذا في هذا الزمن الذي تسلط فيه على المجتمع جهال لا علم لهم ولا فكر وإنما هم كامثال الببغاوات المقلدة التي لا تحسن سوى التقليد وترديد ما يقال لها مشوها، فتراهم مقطبي الجباه يذمون السرور والفرح، ويعدونه من المعايب، ويرون أن مما لا يليق بالمسلم إظهار البشاشة والسرور والضحك والحبور، وينشرون بين الناس أن الضحك يميت القلب ويمحو الحسنات، ويذكرون أن الدنيا لا تليق إلا بالحزن والبكاء، فينشرون السواد والكآبة وضلال السوداوية أينما ذهبوا، وقد جهلوا أن المنهي عنه هو كثرة الضحك في كل وقت، والهزل في كل أمر، وإلا فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحك حتى تبدو نواجده، كما ورد في حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه. كما كان كثير التبسم صلى الله عليه وسلم..
وقد سار الصحابة على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلمن وتبعهم التابعون وتابعوهم وعلماء الأمة وصلحاؤها ممن فقهوا حقيقة الشرع وعرفوا حدوده، فكانوا لا يعرفون النسك الأعجمي ولا الجمود الرهباني، فامتزج إيمانهم العميق بأريحية فطرية عفوية لا تستقر إلا في القلوب المفعمة بالخير والمحبة والشفقة..
ومن هؤلاء العلماء مؤرخ المغرب محمد المختار السوسي، الذي جمع في هذا الكتاب حكايات وطرائف ظاهرها الظرف والضحك والهزل وباطنها ظواهر اجتماعية وفكرية ونفسية برزت في منطقة سوس خلال العقود الاخيرة تمثل ذلك التنافر الاجتماعي الذي يظهر بين الأفراد أو المجتمعات، وتلك المفارقة النفسية بين البيئات المختلفة، ولذلك فهذه الحكايات وإن كانت مما يضحك عموم القراء، فهو مما يعين الباحثين والدارسين المتخصصين على فهم المجتمع وتحولاته والفكر وتغيراته، وقديما قال أجدادنا السوسييون: " لم يوضع الهزل إلا ليقال خلاله  ما لا يمكن قوله من خلال الجد"
حقيقة إن الضحك والهزل من الموضوعات التي اهتم بها سلف الأمة من العلماء وألفوا فيها، وما كتب ابن الجوزري وغيره إلا خير دليل على ما نقول، كما اهتم بها الغرب ومراكزه وباحثوه، خاصة في مجال تأثير الضحك على الإنسان، وعلى فكره ومشاعره وتصوراته..
لهذه الأسباب كلها نعرض لهذا الكتاب الجديد الطريف ونرحب به في مكتباتنا بين ؤلفات العلامة السوسي التس سبقته، بعد أن نطالعه ونتفهم أفكاره ونضحك من طرائفه ونسعد بنوادره، رحم الله العلامة السوسي وجيل العلماء والفقهاء من أمثاله وأثابهم عن الأمة كل خير والسلام عليهم في كل وقت وحين والحمد لله رب العالمين.

الخميس، 16 مايو 2013

انبعاث الجامع الكبير بتارودانت بحول الله.


محراب الجامع الكبير قبل الاحتراق الأخير
         أسبوع بعد المأساة.. بعد المصيبة، جاء الفرج وجاءت البشرى، أتت اليد الحانية المعطاء لتمسح عن الجفون ما وكف من دموعها، حزنا وكمدا على الجامع الكبير.. وعلى ما يعنيه الجامع الكبير من ذكر وعبادة وصلاة وقيام وتلاوة وتوبة وإنابة وإقبال على الله.. وما يدل عليه الجامع الكبير من ماض مجيد وحضارة تليدة وعلم أصيل وفكر ماجد..
            فالجامع الكبير رمز ارتباط المغاربة بدينهم، وشغفهم بمحبة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وكلفهم بكتاب الله تلاوة ومدارسة وتدبرا وتعلما، إنه رمز الوجدان والوجود، وعلامة الحياة والديمومة، فلا وجود للمغرب بعيدا عن الدين، ولا بقاء للوطن بلا إيمان..
            كان أخشى ما نخشاه أن يندثر همّ الجامع الكبير من النفوس، وأن يُنسى مع الأيام، ويصبح علامة على الإهمال، ويصبح منظر الخراب الذي خلفه الحريق مألوفا لدى الناس، ويتثاقل المكلفون بالإصلاح أو البناء في القيام بالواجب، وتطغى البيروقراطية على الموضوع كله، ولكن الله سلّم..

         سلّم الله الجامع الكبير من دوام الخراب بفضل المبادرة الملكية الميمونة التي أتت في إبّانها، لتمسح ما في النفوس من الأسى والحزن على ما وقع، ومن يرقّ لحال الجامع الكبير، ويسعى بحزم وإصرار لتعويضه عما لحقه من أضرار بليغة سوى الحضرة العلوية حضرة أمير المؤمنين.
           نعم لقد انبعث الأمل في نفوسنا، وشعرنا باسترداد ماضينا وذكرياته، وجامعنا وفضائله، وتاريخنا أعلامه ووقائعه، والحمد لله أن يومنا ابن أمسنا فلا قطيعة ولا انقطاع، فكما سارع الملك محمد الخامس رحمه الله إلى إصلاح الجامع الكبير عندما تداعت سقوفه وحيطانه، بعدما قام بزيارته وتفقد أحواله سنة 1364هـ، (أي قبل حوالي 70 سنة، انظر الملحق) فها هو حفيده الموفق بفضل الله يسير على نهجه الميمون، ويقتفي أثره المبارك، ويبادر إلى هذا الوجه الطيب من وجوه الخير والبر، ولو أن المصاب هذه المرة جلل والضـرر بليغ، والعمل المنتظر كبير، فالأمر يتعلق بإعادة هذه المعلمة الحضارية إلى ما كانت عليه، وما ذلك بعزيز على الهمّة العلوية الطّمّاحة الشمّاء المنيفة.


         وإن مما يثلج الصدر أن تكون الرعاية الملكية للمسجد شاملة لتحمل تكاليف الإصلاح والبناء في ظرف وجيز لا يزيد على السنتين، نسأل الله تعالى التوفيق والسداد والنجاح لهذا المشروع العظيم..
             وبعد فإن جلالة الملك قد قام بالواجب وأكثر.. في موضوع الجامع الكبير، وأراح نفوسنا مما كانت ترزح تحته من ألم ممضّ، ونحن واثقون أن الجامع الكبير سينهض من كبوته هذه، ونحن واثقون أن اليوم الذي سيعود فيه الجامع الكبير ليحتضن القائمين والساجدين، والتالين كتاب الله والذاكرين، والمعلمين والمتعلمين، قريب  إن شاء الله- يومٌ تستقيم فيه -من جديد - جدرانه، وترتفع سقوفه، وتتدلى ثرياته ومصابيحه، وتشمخ فيه صومعته، وتزدهي سواريه وأعمدته، وتتزين أرضيته وصحنه، وتترقرق مياه الحياة من نافورته، ويرتفع فيه النداء إلى رب البرية الغفور الودود الله أكبر الله أكبر..
      سيأتي بحمد الله هذا اليوم المنتظر قريبا بحول الله.. فماذا أعددنا له؟؟ هل كان الجامع الكبير سقوفا وحيطانا؟؟ أم كان أكثر من ذلك؟؟
        إن الجامع الكبير مؤسسة اجتماعية وعلمية وفكرية وتاريخية وثقافية، أفلا يستحق أن يخطط لوظائفه كما سيخطط لبنائه وإصلاحه؟؟ أفلا تكون هذه الفرصة السانحة المتاحة بالهمّة الملكية القعساء، مناسبة للتأمل في جملة أمور، حتى يكون الإصلاح شاملا ونافعا مثمرا. فالتصدي لإصلاح أو ترميم أو إعادة بناء الجامع الكبير تحد كبير، ليس من جهة إعادته إلى ما كان عليه، ولكن من جهة المواءمة في إصلاحه بين الحفاظ على ما كان أوإعادته بنفسه أو قريبا منه، تصميما وبناء وزخرفة، وبين تجديد وظيفته بإتقان بنائه وفق الضوابط الفقهية والضـرورات الوقتية، واسترجاع مكوناته المندثرة، والعمل على تثمينه ليصبح درة المدينة الثمينة، وجوهرتها الغالية، من خلال توسيع ما حواليه، وإعادته إلى وظيفته باعتباره مؤسسة علمية ثقافية واجتماعية، وذلك من خلال جملة ملاحظات، هي:
-       قبلة الجامع الكبير شديدة الانحراف نحو الجنوب، منذ بنائه في عهد السعديين، وانحرافها يزيد عن المقدار المقبول، ولاشك أن بُناته الأوائل وموسعيه تركوا القبلة على ما كان عليه في عهد المرابطين فبقي منحرفا إلى الجنوب، ( وكان هذا مجالا لدراسات وأبحاث ومؤلفات منها كتاب القبلة لصالح بن أبي صالح) فلابد إذن من دراسة إمكانية تصحيح القبلة، خاصة أن هناك مساحة خالية متاحة أمام الجامع كانت قبل مقبرة فأزيلت في الإصلاح الذي تم في سنوات الثمانين.

-       كانت هناك مدرسة ملحقة بالجامع الكبير، وقد خربت منذ أزمان فلماذا لا يتم إحياء هذه المدرسة، تجديدا لما كان عليه في العهود الغابرة، وحرصا على إحياء التعليم العتيق وانتفاع المجتمع به.
-       كان هناك كتاّب ملحق بالجامع الكبير بجوار الصومعة ثم خرب في سنوات الخمسين أو بعدها بقليل، وإمام المسجد الآن يدرّس الصبية في غرفة غير مناسبة في المدخل المقابل لحي سيدي حساين، فلماذا لا يتم التفكير في تخصيص مكان للتحفيظ مناسب ومزود بكل ما يحتاج إليه من مقاعد وتجهيزات..
-       كانت هناك خزانة قديمة بالجامع الكبير مشهورة وقف عليها السلاطين السعديون والعلويون كتبا نادرة ومطبوعات ثمينة في أول عهد المغرب بالطباعة، وقد اندثرت المكتبة وتشتت كتبها بين الخزانات العامة والخاصة، فهل يمكن إعادة إحيائها  لتكون منارة للعلم والمعرفة بالمدينة، وهل يمكن تخصيص مكان لها في جنبات الجامع.
-       كان الجامع الكبير مجالا للتعليم والدرس والمحاضرة، وكان يؤمه كبار العلماء الأعلام من سائر أنحاء المغرب بل من البلاد الإسلامية شرقا وجنوبا، فهل يمكن أن تجدد به هذه الدروس، ويلتفت سكان المدينة ممن يزعمون التعلق بالثقافة والفكر للإقبال عليها والانتفاع بها، ويتركوا الزهد في المعرفة بينما يعلنون بأفواههم محبة الجامع الكبير والتعلق بالجامع الكبير، أم أن الأمر متعلق بالجدران والسقوف والأبنية، وليس بما ستقوم به من وظائف ومهام.

        وأخيرا ها هو أمير المؤمنين جلالة الملك قد طمأن القلوب، وهدّأ الأفئدة بمبادرته الكريمة، فهل نكون في مستواها، ونجعل مبادرة إعادة بناء الجامع الكبير مناسبة للتفكير في واجبنا نحوه، وما الواجب نحو المسجد إلا عمارته بالصلاة والذكر والتلاوة والعلم والتعلم والاجتماع على الخير والتآلف على المحبة والوحدة الوطنية والتمسك بقيم الأمة وثوابتها، والابتعاد عن التفرق والتشـرذم والتضاغن..
           إن الاهتمام بالجامع الكبير ليس في التعبير عن الحزن والأسى أوالشكوى، فما وقع و قع، ومغاربة اليوم لهم من الدراية والمهارة ما يمكنهم من إعادة بناء ما تركه الأجداد- بل بأفضل مما كان- إن صحّت منهم العزيمة والنية وسلامة القصد، والبناء آت بحول الله، وسيعود الجامع أفضل مما كان، وإنما الاهتمام متحقق بتثمين هذا الصـرح الحضاري العظيم، واستغلاله في بعث تراثنا العريق وتمتين الارتباط بماضينا المشرق بما فيه من عزة ووحدة وتلاؤم ووئام، فيعود الجامع الكبير سامق البناء، مرتفع القباب، تصدح في جنباته أصوات المكبرين  الركع السجود، والتالين لكتاب الله، وتملأ رحابه بالظامئين إلى المعرفة المسارعين، إلى النهل من معينها الثرار، وتتردد في نواحيه دعوات الحامدين لله رب العالمين، الشاكرين نعمه الكثيرة وآلاءه العميمة، لهذا البلد الكريم ماضيا وحاضرا ومستقبلا بفضل الجبار العلي الكبير، وولي أمره الساهر على أمنه وأمانه الموفق إن- شاء الله دائما- بجميل أنعم ربه، وما الموفق إلا من وفقه الله.
ملحق:
فيديو للجامع الكبير بتارودانت بعد تجديده سنة 1953.
صور حفل افتتاح الجامع الكبير بعد إصلاحه في عهد الاستعمار.

هكذا أدركنا الصحن بأشجاره ونافورته وقد غير في الاصلاح الأخير سنة 2005
قام الملك محمد الخامس رحمه الله بتفقد الجامع الكبير بتارودانت سنة 1944م وأصدر أوامره الكريمة بترميمه، وقد صادف الانتهاء من الترميم الأزمة الوطنية أيام الفداء سنة 1954م وقد قام الفرنسيون بتدشين الجامع الكبير في هذه الفترة في غياب الملك المجاهد رحمه الله في منفاه، وترأس الحفل وزير الأوقاف في عهد بنعرفة الفقيه بوركبة المراكشي، وقد قاطع الرودانيون حفل التدشين ولم يحضره إلا قلة من الأعيان كما يظهر في الصورتين اللتين زودني بهما مشكورا الأستاذ الفاضل الكريم علي زكي المجاطي جزاه الله خيرا كثيرا.
من هم الموجودن في الصورة مع الفقيه بوركبة؟؟؟

ملاحظة: الصورالحديثة  الممتازة للجامع الكبير من موقع:
vacanceo.com


الأربعاء، 8 مايو 2013

آجرنا الله في الجامع الكبير




عبارة رددها كل من عرف تارودانت وجامعها العتيق البارحة في الأزقة والدور وكل مكان فيها، في المكالمات الهاتفية والشبكية في البريد الإلكتروني وكافة أشكال التواصل والاتصال، "احترق الجامع الكبير.."  ما أفظعه من خبر وما أهول وقعه على النفوس التي ألفت الجامع الكبير، والصلاة في الجامع الكبير، والمرور بجانب الجامع الكبير، والوقوف تحت ظل أسواره وبجانب صومعته، إن تارودانت هي الجامع الكبير، والجامع الكبير هو تارودانت، بتاريخها وتراثها وأدبها وفكرها وثقافتها، ورجالها ونسائها.. واخبارها وأحداثها....
صباح هذا اليوم فتحت صفحة الأخبار بأحد المواقع فلم أستطع أن أصدق ما رأته عيناي: الجامع الكبير بتارودانت احترق بشكل كامل.. يا لله ما هذه المصيبة؟ كيف حدث هذا؟ ماذا وقع؟ كنت ما بين مصدق ومكذب، لابد أن هناك غلطا، كيف يحترق الجامع الكبير وهل هو علبة ورق؟ غير أن الصور قطعت الشك باليقين، وبدا لي الجامع الكبير الذي أعرفه وقد صار رمادا وارتفعت أعمدة الدخان من جوانبه إلى عنان السماء.. لقد صار رمادا.. رمادا...

إنها صدمة وأي صدمة تلك التي يشعر بها من يعرف هذا الصرح العظيم، الذي لم تحترق أخشابه وأعمدته وسقوفه وسواريه، فقط وإنما احترقت معها ذكريات الصبا وأيام الطفولة ( نفحات الشباب).. فما من ناشئ في تارودانت إلا وتذكر أيام الجامع الكبير الجميلة.. تذكر الصلاة والذكر، تذكر القيام والصيام، تذكر مجالس الوعظ والتوجيه، وكراسي العلم والتدريس، تذكر ما رأته الأعين وشهدته النفوس منذ عقود وما حفظته الذاكرة وسوّده العلماء والمؤرخون في طروسهم عن قرون مضت، كان فيها هذا الجامع محور المدينة، ومجتمع أرباب العلوم والفنون، وأصحاب الرئاسة والسلطة، ومقر قرارات الحرب والسلم والصلح والبيعة..
هل يعقل أن يحترق الجامع الكبير الذي عايش قوة محمد الغالب ومحمد الشيخ وسطوة المنصور، وثورة يحيى الحاحي ونفوذ أبي حسون السملالي، وانتصارات المولى الرشيد الذي غزا مدينة إيليغ فهدمها وحمل مصاريع أبوابها لتكون مصاريع أبواب الجامع الكبير.. وليترك بصمته الخالدة في بعض قبابها حينما قام بإصلاحها وسجل في جزء من جبصها تاريخ الإصلاح والقائم به من المعلمين.
هل يعقل أن يحترق الجامع الكبير الذي عاصر ثورة محمد العالم  والمولى الحران وابن محرز..وكل مغامرات طلاب السلطة من فاقدي الشرعية ومفارقي الشرع..
هل يعقل أن يحترق الجامع الكبير.. الذي شهد خطب ابن الوقاد ومجالس أبي مهدي عيسى السكتاني ودروس التمنارتي والتهالي والهوزالي.. وامزارگو والجشتيمي والشرادي والقاضي الرسموكي... ودروس أفواج طلبة المعهد الروداني في سنواته الأولى قبل بناء مقره..
هل يمكن أن يحترق الجامع الكبير مجلى أساطين العلم ومجر عواليهم، وموئل طلاب الفكر ووراد الفهم، فكم مسائل شرحت في رحابه، وكم من قضايا أثيرت في جنباته، وكم من كتب تليت في أنحائه، وكم تلاوات تليت في قبابه، وكم أئمة قاموا في محرابه، وكم جباه سجدت على أرضه؟ وكم دموع إنابة وكفت في فجره وعشائه؟ وكم من أذكار في ظهره وعصره؟ وكم من أحزاب قرئت في صبحه ومغربه؟ وكم أجيال تتالت في إعماره؟ وكم من أنفس تمتعت بشميمه؟

الجامع الكبير ذلك الصرح الممرد من طهارة العقيدة السمحة وعبق التاريخ، المضمخ نسيمه بمسك التلاوات تشدو بها حناجر القراء الصادحين.. وحلاوة الأمداح في جناب النبي الأمين صلى الله عليه وسلم.. الجامع الكبير المتميز بهدوئه وسكونه وسط ضجة الحياة وضجيجها.. إنه إحدى أطهر البقاع في هذه المدينة الهادئة الهانئة.. صار رمادا ...لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
كان الجامع الكبير صرحا عتيدا من صروح بلدنا الحبيب، كنت أمر بجواره وبجوار صومعته، في امتدادهما في السماء وخلودهما على الأيام، فأتذكر قصيدة ابن خفاجة في وصف الجبل، التي يقول فيها: ( وقد حورتها لتناسب الجامع الكبير وليراجع الأصل في ديوان الشاعر.)

وَأَرْعَنْ    طمّاح    الذؤابة       باذخ

يطاول   أعنان    السماء    بغارب

يسد  مهب  الريح  عن  كل    وجهة

ويزحم    ليلا    شهبه      بالمناكب

وقــور   على   مرّ الليــالي  كأنه

طوال  الدهور    مفكر  في     العواقب

يلوث   عليه   الليل   سود   عمائم

لها من وميض البرق  حمر    ذوائب

اصخت  اليه  وهو  اخرس  صامت

فحدثني   ليل   السـرى      بالعجائب

وقال  إلى  كم  كنت  ملجأ زاهد

وموطن     أواه     تبتل        تائب

وكم  مر  بي  من  مدلج     ومؤوب

وقال  بظلي   من   مطي     وراكب

فما كان إلا  أن  طوتهم  يد    الردى

وطارت  بهم  ريح  النوى   والنوائب

فما خفق  أيكي  غير  رجفة    أضلع

ولا نوح  وُرقي  غير  صرخة    نادب

وما  غيض  السلوان  دمعي     وإنما

نزفت دموعي  في  فراق  الصواحب

فحتى  متى  أبقى  ويظعن    صاحب

أودع   منه   راحلا    غير      آيب

وحتى متى  أرعى  الكواكب    ساهرا

فمن  طالع  أخرى  الليالي    وغارب

فرحماك  يا  مولاي   دعوة   ضارع

يمد   الى   نعماك   راحة     راغب

فاسمعني  من  وعظه   كل     عبرة

يترجمها   عنه    لسان      التجارب

فسلى  بما  أبكى  وسرى  بما  شجا

وكان على عهد السـرى خير صاحب

وقلت   وقد   نكبت   عنه      لطية

سلام   فانا   من   مقيم      وذاهب





حينما قرأت الخبر جلست حزينا كئيبا يلفني شعور بالضياع.. كمن فقد فجأة كل عزيز عليه نسأل الله اللطف والسلامة- تذكرت الجامع الكبير الذي كان أول ما لفت نظري وأنا طفل صغير حديث عهد بمدينة تارودانت، وقد أسكننا الوالد رحمه الله المنتقل آنذاك- من مركز إيغرم بقمة الأطلس الصغير إلى تارودانت موظفا بمحكمة السدد بها (المحكمة المركزية ثم المحكمة الابتدائية حاليا) بحي سيدي حساين، كان عمري حوالي 6 سنوات، في مغرب اليوم الموالي لقدومنا رافقني الوالد رحمه الله إلى الجامع الكبير، وقد لبست أحسن ما لدي من ثياب وذهبت لصلاة المغرب، صلينا المغرب وأخذني الوالد إلى جانبه ليجلس في محراب المسجد مع طائفة من الفقهاء لتلاوة الحزب المسائي، كنت أستمع وانظر إلى هذا المنظر الذي لم أره من قبل، وقد خلبت لبي أصوات القراء، وأطارت صوابي زخارف المسجد في الخشب والجبص، في الجدران والسقوف، وكانت تلاوة الحزب آنذاك تبث على الهواء إلى خارج المسجد انطلاقا من مكبرات الصوت الجهيرة الموضوعة في أعلى الصومعة المرتفعة إلى السماء.
رجعت إلى المنزل، فاستقبلتني الوالدة فرحة مسرورة وقد استمعت إلى تلاوة الحزب وهي في المنزل القريب من المسجد، منذ هذه اللحظة بدأت علاقتي بالجامع الكبير، وقد ألزمني الوالد رحمه الله أن أذهب كل يوم لتلاوة الحزب الراتب حاملا مصحفي بين يدي،

ثم مر الزمان سريعا وازدادت صلاتنا بالجامع الكبير متانة، وكيف لا وقد كان مسجدنا الدائم لأداء الصلاة، بعد أن نقلنا الوالد رحمه الله إلى منزلنا الجديد الذي شيده بحي باب الزركان، في الدرب الواقع أمام مسجد أبي ثابت الأثري المندثر الذي تحول إلى ضريح يزار ثم صار أخيرا أثرا بعد عين.

ومضت سنوات تعرفت خلالها على أفواج من حفاظ القرآن الكريم المداومين على تلاوته في صباحات الأيام ومساءاتها، حينما كانت جنبات الجامع الكبير تهتز بتلاواتهم الرخيمة المؤثرة التي تبرز حفظهم المتقن، وكثير منهم سقطت أسماؤهم من الذاكرة  وأذكر منهم السيد الحسين والسيد بلعيد الخيّاطان، وكان الأخير منهما يثير اهتمامي بتلاوة الحزب وهو مطبق أسنانه بعضها على بعض..
كما عرفت في الجامع الكبير بعض زواره الذين كانت تجللهم الغرابة، مثل شيخ كبير السن أسمر البشرة نجده في الجامع عندما نذهب إليه، ولا يخرج إلا بعد انصرافنا، وكان لا يسجد عند سجدة التلاوة، واذكر أن بعض أقراني اخبرني انه كان من المقاومين وأنه تعرض للتعذيب من المستعمرين حتى عجز عن السجود، فلذلك كان يصلي دائما قاعدا.. كنا نراه دائما بالمسجد حتى توفي في زمن لا أذكره الآن.
كما عرفت في الجامع الكبير بعض القيمين بشؤونه مثل الفقيه الحاج محمد المنتاگي إمامه الراتب وخطيب الجمعة ، وابنه الذي كان يجلس ليقرأ معنا الحزب كل مساء وعوض أن يشتغل بالتلاوة كان يشوش علينا بما يضحكنا به من نكات ونظرات والده الحادة ترمقه مهددة متوعدة، ومؤذن المسجد السيد أشهبون والد أستاذي في التربية الإسلامية بثانوية ابن سليمان الروداني، والذي  كان دائم المراقبة لنا يخاصمنا عند أدنى حركة..ويراقبنا ويتمعن في أحوالنا إبان تلاوة الحزب الراتب، وأذكر السيد الرحوم ساعي البريد الذي كان يتلو حديث الإنصات أيام الجمع، واذكر مؤذنين آخرين كان لكل منهم نبرته الخاصة، وصوته العذب القوي، أتذكر منهم المؤذن المرحوم "الفيو" الذي كان يهز أركان المسجد بأذانه وأذكاره خاصة في رمضان بصوته المزلزل كالرعد، وأتذكر أنه ما يكاد ينتهي من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في فجر كل رمضان أذن فيه إلا وأتبعه بقوله تعالى: (وقل الحمد الله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وكبّره تكبيرا) فيتبعه بلا فاصل بالأذان.
 كما كان بعض هؤلاء المؤذنين يحملون مفاتيح ضخمة لأبواب المسجد ولا يترددون في رميها على كل من يحدث ضجيجا أو فوضى من الأطفال. وكان يروقنا أن نبقى بالمسجد بين الظهرين حيث الهدوء والسكينة، فنجلس إلى فسقية الماء في فنائه وحولها بعض أشجار الحوامض، نتلهى باقتطاف ثمارها غير الصالحة للأكل وبمراقبة النحل والطيور التي تأتي للشرب في مياه المسجد.


وكان ليوم الجمعة وقع خاص في نفوسنا، ففي هذا اليوم كان يمتلئ المسجد بطلبة معهد محمد الخامس الذين كان يسمح لهم بالخروج في هذا اليوم فتمتلئ بهم جنبات المسجد، يجلسون فيه للمراجعة والاستذكار، وكان يروق لي أن أراهم يجلسون زرافات ووحدانا في هدوء وسكون يراجعون دروسهم ويقلّبون أوراقهم وكتبهم، فكان منظرهم من كبار المحفزات لمن كان يرغب في الدراسة والتعلم.
كما كان لرمضان طعم خاص بالجامع الكبير،  فبمجرد أن ينفضّ الناس من صلاة الظهر كان الفقيه الأستاذ سيدي محمد الغالب يأتي متأبطا جزءا من صحيح الإمام البخاري ليعتلي كرسي الدروس وينطلق بسلاسة ومهارة في سرد الأحاديث وشرحها وبيان ما فيها من فوائد لغوية وفقهية وعقدية، ونحن مأخوذون بفصاحته وعلمه وسعة معارفه، وكان أكثر ما يثير اهتمامنا سوقه لبعض القصص والحكايات أثناء حديثه، فنبقى مشدوهين متتبعين ما يقولون متلذذين بما فيه من حكمة وبلاغة.. وكانت هذه الدروس يومية في رمضان، وكنا نتتبعها ونحن في عطلاتنا المدرسية الصيفية، نسعد بما فيها من فوائد وبما لصاحبها من فصاحة وذلاقة لسان حفظه الله وبارك في عمره، ثم إن تلك الدروس الرمضانية اليومية صارت بعد زمن أسبوعية ثم انقطعت بعد ذلك. 
انتقلت إلى الثانوي، وإلى السنة الأخيرة منه، فصار الجامع الكبير مكان الهدوء والسكينة أفضل محل للمراجعة والاستعداد للامتحان، كنت آوي إليه بين الظهرين مع زميلي في الدراسة "المحجوب السگراني" فنجلس الساعات الطوال ننظر في الكتب ونراجع الدروس وربما بقينا هناك حتى المغرب لا يزعجنا أحد، ولا يكدر صفو سكينتنا شيء.. كان الجامع الكبير قد تغير، فقد مسته يد ظنت أنها أصلحته فلم تزد إلا أن طمست بعض نقوشه وضخّمت سواريه، وما لبث أن غزت الحفر أرضه، ولولا تدخل بعض الغُير من العارفين لعدا الطمس على صومعته التي أراد صاحب المشروع أن يطمس زخارفها وزليجها الأثري ولكن الله سلم، كما عزل إمامه المنتاگي نتيجة ما شهده آخر العقد الثامن من القرن الماضي من فتن، ونتج عن ذلك وقوع بعض الاضطراب في سير المسجد، حتى أوتي إليه بإمامه الحالي الحاج محمد بن يحيى فبقي فيه مجاهدا حتى يوم الحريق المشؤوم ..


ثم جاء عهد الجامعة والدراسة بها وتعميق المعرفة، فلم تنقطع الصلة بالجامع الكبير، وكيف لا وقد وجدته في المصادر والمراجع مذكورا بمن كان به من العلماء، ومن درس به من الفقهاء وما كان في خزانته من الكتب والمخطوطات.. وجدته في الفوائد الجمة لأبي زيد عبد الرحمان التمنارتي، وفي وفيات الرسموكي، وفي كتب العلامة محمد المختار السوسي، وفي كتاب الحركة الفكرية على عهد السعديين لمحمد حجي وفي غيرها من الكتب والدراسات والأبحاث، فرأيتني وأنا الذي عرفت الجامع الكبير بسقوفه وأعمدته وحيطانه وفنائه وصومعته، ازداد  علما بتاريخه وماضي رجالاته وأثره في الفكر والثقافة المغربية والإسلامية عامة، وما مر عليه من أهوال وأدوار كادت تقضي عليه، غير أن ذلك لم يقدر له إلا هذا اليوم ولله الأمر من قبل ومن بعد.. فصرت إذا دخلت الجامع الكبير تخيلت مجلس العلامة التمنارتي وقد تحلق حوله الطلاب يأخذون عنه، وقد حضر درس ختمه لبعض الفنون، بعض فقهاء بلاد السودان المغربي، فأتم الدرس ودعا للجميع وختم مجلسه بالإجازة العامة لكل من حضر من طلبته وابنيه ..وتخيلت الإمام ابن الوقاد وهو يقف على المنبر خطيبا مصقعا، يدعو إلى مكارم الأخلاق وينبه على مزالق الأنفس والقلوب.. وتخيلت أبا مهدي عيسى السكتاني ترد عليه الفتاوى والنوازل فيجيب عنها متانيا باحثا منقبا..

صرت أرى في كل ركن من أركان الجامع الكبير جزءا من تاريخه، وطرفا من أحداثه، وبعضا من مجريات الليالي والأيام، وربما وقفت لأضع يدي على أبوابه أو جدرانه أو صومعته لعلي أشعر شعور من كانوا هنا قبلنا ومن مروا بالجامع أو أموه للصلاة والذكر والعبادة أو للدراسة والتعلم، ولسان حالي يردد قول الشاعر:
         أَمُـرُّ عَلَـى الدِّيَـارِ دِيَـارِ لَيْلَــى         أُقَبِّــلُ ذَا الجـِدَارَا وَذَا الجــِدَارَا
        وَمَـا حُـبُّ الدِّيَـارِ شَغَفْـنَ قَلْبِـي       ولَكِـنْ حُـبُّ مَنْ سَكَـنَ الدِّيَـارَا
ثم أُغلِق الجامع الكبير مدة نافت على السنتين للإصلاح، وحيل بيننا وبين زيارته، وصرنا نمر جنبه ولا نستطيع أن ندخل إليه ليحتضننا ويضمنا إليه كما عهدناه دائما كالأم الرؤوم أو الأب الحنون، وطالت المدة إلى أن جاء وقت الفرج وانتهت الأشغال وعادت المسجد إلى سابق عهد من العمارة بالصلاة والذكر والعبادات.. فصار بهي الشكل جميل المظهر متجدد الشباب، لولا ما ظهر من آثار الاصلاح غير المتقن في بعض جنباته مع ما كلف من أموال وجهود..


تذكرت وأنا أنظر إلى صور الجامع المحترق، ما قرأته في وثائق الأحباس عن المرصود له من جزيل الأوقاف، ومصاريف الإصلاح، وما وقع فيه في بعض الأعصر من تشقق للسقوف وسقوط للجدران، وما بذل في سبيل الحفاظ عليه من جهود وما اعتور بعضها من خلل وهفوات.. تذكرت كل ذلك وأنا أنظر إلى تلك الصور المحزنة..
إن احتراق الجامع الكبير بهذا الشكل المهول مصيبة عظيمة لتارودانت وتاريخها وفكرها وثقافتها وأهلها، وإنها لرسالة صامتة إلى كل مقيم بتارودانت وإلى كل سوسي وإلى كل مغربي وإلى كل مسلم.. رسالة صامتة إلى الجميع، فلنتاملها ولنستمع إليها، ولنتحسس ما فيها من عبر وعظات، بعيدا عن كل جعجعة لا طحن وراءها.. ففي ما وقع ألف عبرة وعظة ( لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.)
وكأنني بالجامع الكبير يخاطبنا جميعا، ليقول:
 " أهذا ما استحقه منكم يا بني رودانة؟ أهكذا أعامل وقد جلل الشيب هامتي؟ ورمتني صوارف الأيام بنبلها؟ أهكذا تصان شيبتي بينكم؟ أهكذا الحرص والوفاء؟؟ أهكذا يصان تراث الأجداد عندكم؟؟ أهكذا تعامل وديعة الأسلاف لديكم؟؟ أهذه قيمتي ومكانتي فيكم؟؟ فوداعا وداعا يا من لا تهتمون بماضيكم.. وداعا يا من تنسون تراثكم.. وداعا يا من لا تنظرون إلى مجد ماضيكم إلا لتتفاخروا وتتنفجوا به .. وإلا لتتكسبوا به ثمنا قليلا أو جاها متوهما، لا لتأخذوا منه ما يحيي حاضركم، ويغرس بذور النهوض والتقدم في مستقبلكم.
وداعا وداعا.. لألحق بمن أشادوا صرحي بسواعدهم..وملؤوا جنباتي بصلواتهم.. وعمروا فنائي بدروسهم.. وتزودوا مني قوة ومنعة، وصبرا وعزا، ومجدا وحضارة حملوها إلى جهات الأرض، دعوة بالتي هي أحسن، ومعاملة بالتي هي أفضل..فنشروا العلم والمعرفة، وبثوا الطهر والعفاف وأشادوا المجد والحضارة، وتركوا لكم من الأخبار ما يحيي أفئدتكم، ومن الآثار ما يشحذ هممكم.
وداعا وداعا... ولأترككم لأنظر ما تفعلون بعدي.. أتشمرون على سواعدكم لتقتدوا بأسلافكم، فتشيدوا ما تهدم من أركاني، وترفعون ما تطامن من قبابي، وتجددوا عهدي الغابر ومجدي الداثر.. فتعمرونني بالصلاة والقيام والاذكار والدروس والمواعظ.. لتأخذون من كل ذلك زادا لمراجعة أنفسكم وتطوير حياتكم، وتحسين أحوال دنياكم، والإخلاص لوطنكم وأولياء أموركم، وصيانة وحدتكم، وجعل ذلك كله وسيلة لتشييد منازلكم في الأخرة، باليقين في العمل والإخلاص في القصد، والرغبة في ما عند الله.. فتعود مدينتكم مدينة العلم والدين، وموطن المعرفة والفكر، ومحل العلماء المؤلفين، والفقهاء المحدثين... أم تكتفون بالتباكي على ما كان من أمري .. والتخاصم حولي.. والتنافر بسبب ما وقع لي..؟؟؟ وتعودون بعد أيام لنسيان ما حدث لي، لتشتغلوا بشؤونكم اليومية، ومشاغلكم  الوقتية، لا يهمكم من أمركم إلا دنيا تصيبونها، أو زاد تتقوتون به، أو سقف جديد تسكنونه، أو طريف محدث تتلهون به، فتعرضون على المعارف والعلوم، والأخلاق والخصال الحسنة، وقد نسيتم ما كان عليه أسلافكم من التشبث بالدين، والإقبال على العلم، والاعتزاز بتحصيل المعرفة، واتباع العلماء والتأسي بهم في كل شاذة وفادة.. فإن عدتم كذلك فأنا أقول لكم أنه لا خير فيكم، ولا صلاح يرجى منكم، ولا فائدة لكم في جامع جديد، فالمسجد والجامع بعمارته، وبإقبال أهله على صلاته وعبادته وعلمه ووعظه وذكره.. وجعل ذلك عماد المعاملة الحسنة، والخلق الطيب، والخصال الجميلة، فوداعا أيها الرودانيون وداعا...."

أما أنا فلم أحر جوابا، إلا أن أقتبس أبياتا للعلامة الأديب القاضي أحمد سكيرج حينما حل بتارودانت في العقد الرابع من القرن العشرين ووجد الجامع الكبير مشوش الأركان، قد درست ملامحه وأشرف على الخراب، فتكدر من ذلك خاطره كما هو حالنا الآن- فقال يشكو حاله إلى سلطان زمانه، الملك محمد الخامس رحمه الله سنة1356هـ/ 1936م:
                  وَدَخَلْتُ جَامِعَهَا الكَبِيرَ فَهَالَنِي     لَمَّا رَأَيْتُ دَعَائِمَ الحِيطَانِ
                 وَتَشَابُكَ الخَشَبِ الَّتِي بِسُقُوفِهِ      وَشُقُوقَهُ مِنْ سَائِرِ الأَرْكَانِ
                  قَدْ غَيَّرَتْهُ يَــــدٌ تَظُـنُّ بِأَنَّهَا       قَدْ أَصْلَحَتْ مَا فِيهِ مِنْ بُنْيَانِ
                 يَالَيْتَهَا هَدَمَتْهُ حَتَّى لَمْ يُضَـعْ         مَالٌ بِهِ صَرَفَتْهُ فِي خُسْرَانِ
                 لَا سِيَمَا وَقَدِ اسْتَحَالَ لِصُورَةٍ         شَوْهَاءَ بَعْدَ جَمَالِهَا الفَتَّانِ
                 لَا لَا أَرَى أَحَدًا يَرِقُّ لِحَـــالِهِ         فِي حَالِهِ الحَالِي سِوَى السُّلْطَانِ
                مَنْ مُبَلِّغٌ لِلْحَضـْرَةِ العَلَوِيَّةِ الـ       ـشَّمَّاءِ حَالَ المَسْجِدِ الرُّودَانِي
               فَقَدِ اسْتَحَالَ لِحَالَةٍ يُرْثَى لَهَـــا        مِنْ بَعْدِ مَا قَدْ كَانَ فِي اسْتِحْسَان
هكذا نقتبس من العلامة سكيرج، لنقول بعد هذا الحدث الجلل، ولا راد لقضاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، رافعين شكوانا إلى ملك البلاد محمد السادس حفظه الله:
                  مَنْ مُبَلِّغٌ لِلْحَضـْرَةِ العَلَوِيَّةِ الـ       ـشَّمَّاءِ حَالَ المَسْجِدِ الرُّودَانِي
                    فَقَــدِ اسْتَحَالَ لِحَالَةٍ يُرْثَى لَهَا      مِنْ بَعْدِ مَا قَدْ كَانَ فِي اسْتِحْسَان


وإذا كان ما يمكن أن يحمد الله عليه في هذا الحدث الجلل، فهو حفظ الله تعالى أرواح المصلين، وصيانته لنفوس الناس، فلو وقع هذا الحدث - لاقدر الله- يوم جمعة أو وسط النهار لكان المصاب جللا ولكن الله سلم، ولكن الله سلم، والحمد لله على كل حال، والأمر لله من قبل ومن بعد، والرجاء في الله أن يعود الجامع الكبير كما كان بل أفضل مما كان، ببناء جديد، يحافظ فيه قدر الإمكان على ما كان عليه من تصميم فريد وجمال أخاذ، مع الأخذ بعين الاعتبار أداء وظائفه المختلفة، ومن أهم ما ينبغي أن يلتفت إليه تصحيح قبلته المنحرفة بأزيد من 30 درجة إلى الجنوب، ورفع مستواه على مستوى الأزقة المحيطة به حتى يعلوها بمسافة مناسبة تحفظه من اللإغراق بالمياه كما وقع أخيرا، وتوسيعه إلى الجهة الجنوبية الخالية التي كانت في الأصل مقبرة، وإضافة البقعة الفارغة في غربه والمشغولة بالأشجار لتكون مدرسة علمية أو قرآنية..
إن إعادة الجامع الكبير إلى سابق عهده رهين بالمواءمة بين الجميل والنافع وبين الأثري والعصري، ليعود مسجدنا الجامع للقيام بمهامه بفتح أبوابه ليستقبل محبيه من المؤمنين القانتين الساجدين الذاكرين، التالين لكتاب الله تعالى، الصابرين المحتسبين على ما أصابهم، المرددين دائما وأبدا حال كربهم: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وليعود الأطفال إلى المشي في فنائه، ولينطلق الأذان من مكبراته، مدويا بكلمة التوحيد، ولتحلق أسراب الحمام في فنائه، وتتراقص المياه في نافورته، و النحلات تطير حولها مرتشفة من مياهها العذبة النميرة، بينما تمرر أصابع الشيوخ الذاكرين حبات السبحات وهم ينتظرون حلول وقت الصلاة..وتعود تارودانت مزهوة بجامعها الكبير الناهض من ألمه الممض بعزيمة صلبة تماثل عزيمة المغاربة في تمسكهم بدينهم وإيمانهم وتوحيدهم لرب الأرض والسماوات العلي القدير ذي الملك والملكوت.