لا تفتأ حركة التأليف مستمرة بدون انقطاع، مختلفة الأشكال والأنواع والمضامين، معبرة عن تطلع الإنسان إلى المعرفة، والمزيد من المعرفة لذاته ولغيره وللكون، وإذا استطاع الإنسان أن يعرف كثيرا من أسرار الطبيعة من حوله فبلغ عنان السماء بل تجاوزه، ونزل إلى أعماق الأرض وغاص في أعماق البحار، وتجاوز الأعماق الممكنة فأناب الآت واطلع على الأسرار المخبوءة عن عينيه، فإنه عجر عن إدراك كنه نفسه وأسرار ذاته وخبايا مجتمعه، لأنه عاجز ضعيف عن إدراك تلك الخفايا لا يسعفه عقله مهما تجبر ولا تنصفه حواسه ولو تقوت بالآت والأدوات..
وفي سياق تأمل الذات ومعرفتها اشتغل الناس قديما بدراسة الأعلام وتأمل حياة العظماء لاستشراف أسباب تفوقهم على غيرهم وبروزهم في عصرهم وسطوع شموسهم حين كسفت نجوم غيرهم..ولاشك أن هذا الباب من أجلّ أبواب التأليف لأن منه تؤخذ العبر وتستشف الفوائد، فما انتفع الانسان بأفضل من النظر إلى حياة غيره وما اتعظ بأفضل مما وقع لمثله من بني جنسه، لذلك حفل القرآن الكريم بقصص السابقين من الصالحين او الطالحين، من الأتقياء المهتدين أو الأشقياء الضالين ..
في ظل هذا التصور نعرض اليوم لصدور كتاب جديد من منشورات فريق البحث في التراث السوسي الذي يشتغل في مجال النبش في التراث الجهوي لمنطقة سوس منذ ست عشرة سنة خلت، ذلك هو كتاب الحاج الحبيب البوشواري، هذا العلم العالم المعمر المشهور بجهاده للاستعمار الفرنسي، وصبره على التعليم لمدة تزيد عن السبعين سنة، تخرج عليه فيها أجيال من العلماء والفقهاء جيلا بعد جيل، وقد تميز بميزات كثيرة لعل أبرزها صلاحه ولطفه وسعة أخلاقه وزهده في متاع الدنيا ونصحه الناس وتمسكه بالسنة ونبذه البدعن وحرصه على وحدة المجتمع، وأسلوب اللطيف في الإرشاد والتوجيه، وأفضل من وصفه معاصره العلامة محمد المختار السوسي، حين قال عنه
:" العلامة الجليل، الشيخ البركة النفاعة الصالح المدرس طوال عمره ..فذ غير مشَارك بين الحياء أمثاله في خصال شتى، فقد كان من طبقة كانت تخُبّ وتضع في عمارة مدارس جُزولة .. يستفرغ جهوده في الإكباب على التدريس، لا شغل له ولا همة إلا في ذلك، فلا مال ولا أوراد، ولا تشوف إلا لنفع الطلبة تعليما وإعانة وتهذيبا وتموينا.. إنني انظر إلى فذ قلما يوجد له نظير في أقرانه، وسيكتب عنه تلاميذه النجباء، وسيخلد ذكره منهم الشعراء" ( المعسول17/282)
وبعد، فقد عاش العلامة الحاج الحبيب 118 سنة توفي بعدها سنة 1397/ 1977 وها قد مرت أزيد من ثلاثين سنة على وفاته وقد صدّق القدر العلامة السوسي فألف عنه تلاميذه ثلاثة كتب منهتا المطبوع والمرقون والضائع ، وخلد ذكره الشعراء في هذا الكتاب وغيره، وبقي ذكره عذبا تستلذه ألسن الذاكرين وآذان السامعين، رحمه الله تعالى وأسبل عليه المغفرة و الرضوان.
صدر الكتاب ضمن منشورات فريق البحث في التراث السوسي بكلية الآداب بأكادير بدعم من المجلس البلدي لمدينة بويكرى سنة 2009، وستصدر الطبعة الثانية من الكتاب في خضم السنة الجارية بحول الله تعالى وقوته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق