اما هذا الكتاب الذي يهديه لنا الأستاذ عبد الوافي في صيف هذه السنة، وحرارة القيظ تسري في الجِواء، فكتاب خفيف على الذهن، ممتع للفكر، لائق بفصل الصيف وحرارته اللاهبة، إنه كتاب نوادر ومفاكهات ومباسطات ومضحكات، إنه كتاب مميز مما تهفو النفوس لمطالعته، وتسر القلوب بتصفحه..وكيف لا وهو كتاب لم يقصد الإضحاك التافه ولا الهزل السمج المستند إلى قلة الذوق وضحالة الخلق والذي هو من شأن السوقة وأصحاب السفاسف.. وإنها هو ظرف وأريحية وراءها حكمة وعبرة، وفيها مغزى ودلالة على الحياة الاجتماعية والحالة النفسية لزمن انطوى هو وأهله، ولم يبق من ذكرهم إلا" كباقي الوشم في ظاهر اليد" لولا أن تدراكه العلامة السوسي فسجله في هذا الكتاب القيّم، الذي يدل على اتساع أفق علماء المغرب، وكونهم رجال الدين والدنيا، اكتملت اخلاقهم ونفسياتهم فلم يكونوا رهبان أديرة ولا عبّاد زوايا، بل عاشوا حياتهم بطولها وعرضها وفق الشرع الحنيف، ولم يتركوا جانبا من جوانب الفكر إلا وجاسوا خلاله مستهدين بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، أقول هذا في هذا الزمن الذي تسلط فيه على المجتمع جهال لا علم لهم ولا فكر وإنما هم كامثال الببغاوات المقلدة التي لا تحسن سوى التقليد وترديد ما يقال لها مشوها، فتراهم مقطبي الجباه يذمون السرور والفرح، ويعدونه من المعايب، ويرون أن مما لا يليق بالمسلم إظهار البشاشة والسرور والضحك والحبور، وينشرون بين الناس أن الضحك يميت القلب ويمحو الحسنات، ويذكرون أن الدنيا لا تليق إلا بالحزن والبكاء، فينشرون السواد والكآبة وضلال السوداوية أينما ذهبوا، وقد جهلوا أن المنهي عنه هو كثرة الضحك في كل وقت، والهزل في كل أمر، وإلا فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحك حتى تبدو نواجده، كما ورد في حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه. كما كان كثير التبسم صلى الله عليه وسلم..
وقد سار الصحابة على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلمن وتبعهم التابعون وتابعوهم وعلماء الأمة وصلحاؤها ممن فقهوا حقيقة الشرع وعرفوا حدوده، فكانوا لا يعرفون النسك الأعجمي ولا الجمود الرهباني، فامتزج إيمانهم العميق بأريحية فطرية عفوية لا تستقر إلا في القلوب المفعمة بالخير والمحبة والشفقة..
ومن هؤلاء العلماء مؤرخ المغرب محمد المختار السوسي، الذي جمع في هذا الكتاب حكايات وطرائف ظاهرها الظرف والضحك والهزل وباطنها ظواهر اجتماعية وفكرية ونفسية برزت في منطقة سوس خلال العقود الاخيرة تمثل ذلك التنافر الاجتماعي الذي يظهر بين الأفراد أو المجتمعات، وتلك المفارقة النفسية بين البيئات المختلفة، ولذلك فهذه الحكايات وإن كانت مما يضحك عموم القراء، فهو مما يعين الباحثين والدارسين المتخصصين على فهم المجتمع وتحولاته والفكر وتغيراته، وقديما قال أجدادنا السوسييون: " لم يوضع الهزل إلا ليقال خلاله ما لا يمكن قوله من خلال الجد"
حقيقة إن الضحك والهزل من الموضوعات التي اهتم بها سلف الأمة من العلماء وألفوا فيها، وما كتب ابن الجوزري وغيره إلا خير دليل على ما نقول، كما اهتم بها الغرب ومراكزه وباحثوه، خاصة في مجال تأثير الضحك على الإنسان، وعلى فكره ومشاعره وتصوراته..
لهذه الأسباب كلها نعرض لهذا الكتاب الجديد الطريف ونرحب به في مكتباتنا بين ؤلفات العلامة السوسي التس سبقته، بعد أن نطالعه ونتفهم أفكاره ونضحك من طرائفه ونسعد بنوادره، رحم الله العلامة السوسي وجيل العلماء والفقهاء من أمثاله وأثابهم عن الأمة كل خير والسلام عليهم في كل وقت وحين والحمد لله رب العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق