صدر
أخيرا كتاب"الثريدة المناغية للعصيدة.." وهو مؤلف قيم للعلامة محمد المختار السوسي رحمه الله تعالى، ونشر بإشراف ولد المؤلف البار
عبد الوافي رضى الله السوسي، وهذا الكتاب من أنماط التأليف الطريف المتعلق
بالأغذية والأطعمة، ومن المعلوم أن أدباء العربية قد تفننوا في الكتابة في الموضوع
وذهبوا في ذلك مذاهب شتى تظرفا أو تفكها أو إحماضا وتنذرا وتخفيفا على النفس من صرامة الجد..
ومن أبرز الادباء الذين تحدثوا – قديما - عن المآكل المسعودي والجاحظ.. وغيرهم، أما في
العصر الحديث فنجد أحمد آمين وزكي مبارك و محمود علي قراعة، قد تساجلوا في المجلات المصرية كالرسالة، أوائل القرن العشرين حول علاقة الأدب بالطعام، والصلة بين أدب الروح وأدب المعدة..( انظر المعارك الأدبية لأنور الجندي، ص:248 مكتبة النجلو مصرية1983)
وإذا كان الأدباء قد ذهبوا مذاهب شتى في ذكر أفخر أنواع المآكل وأفخم أجناس
الأطعمة، فإن العلامة السوسي – المنفي إلى بادية إلغ القاحلة التي لا تفي لأهلها إلا
بوجبة طعام واحدة في اليوم- نظم قصيدة عصماء عن العصيدة الساذجة، التي اشتهرت
بكونها طعام الفقراء والصوفية وذوي الحاجة، إلا أن السوسي مدحها أيام الحرب
العالمية الثانية أيام الخصاص والقلة... ثم أردف القصيدة بشرح يوضح معاني ألفاظها
ومقاصد عباراتها بإيجاز واختصار.. غير أن العصيدة التي ذكرها السوسي واشتغل بوصفها
ووصف تناولها في 74 بيتا، لم تكن من العصائد الساذجة الدالة على الفقر والحاجة في
عصره، بل هي من أرقى العصائد خاصة أنها محضرة من أجود أنواع الذرة التي طال وضعها
على النار حتى استوت أكلة شهية لذيذة، وزادها لذة كون السمن المذاب إدامها، وأكلها
مخلوطة باللبن، وقد قال عن القصيدة والشرح
معا:
" للأدباء مسابقات في ميادين شتى يطلقون فيها أفراسهم ويفجرون فيها قرائحهم
، قصد إطالة نفس الأدب في كل جهة ولإيجاد المتعة للنفس الأدبية أينما كانت متوجهة فلذلك
كانت لهم الموائد الحافلة والمطاعم المتنوعة حلبات أنضوا في أوصافها المتنوعة قوافي،
وأرسلوا فيها عيون الخيالات الشتى .فمن قرأ كتب الأدب للمتقدمين يجد في اليتيمة للثعالبي
وفي مروج الذهب للمسعودي وفي غيرها قطعا أو قصائد كبيرة في وصف أنواع المأكولات أو
المشروبات، فذلك ما حدا بي إلى وصف العصيدة."
ومطلع القصيدة:
لمـــن جفنـة قــد أقبلــت تتألـق***تـــلوح
بـــلألاء العصيـــدة يبـــرق
مسنمــــــة حتـى كــأن سنامهـا***شماريـخ
طــود لم يكــد يتسلــــق
وقد فغمت منها الخياشيم نكهة***تطيـب بهـا
كـل النواحي وتعبــق
أهذا أريج المسـك أن نفـح روضـه***أزاهيــرها
تــحت الصبــا تتفتــق
وعهدي بأنفي ليـس يغلـط شمّـه***فيــا طالمــا
شـــم البعيـد فيصــدق
ألم ترهـا كالثغـر أشنـب بـاسمـا***متــى
جـال فيهــا غرثـان يشهـق
لها قمـة في وسطهـا حـوض زبـدة***(كجــابية
الشيـخ العراقي تفهق)
والقصيدة تبرز جانبين من نفسية العلامة السوسي:
-
أولهما: جانب الفكاهة والأريحية، فلم يكن فقيها جامدا بل أديبا أريحيا
تطربه الكلمة المبدعة وتعجبه الطرفة الحكيمة دون إسفاف ولا ميع، وقد عرف ذلك منه
كل من درس عليه بل كل من عرفه أو طالع كتبه الكثيرة المتنوعة.
-
تواضعه وإخلاصه لأصله ونشأته البدوية، فلم يتكبر على أهله ولم يتنفج حتى
عندما بلغ أعلى مراتب الجاه والسلطة والمكانة العليّة لدى العامة والخاصة، فقد بقي
المختار المتواضع الذي يعرف مقدار نفسه ويتطامن لربه وعباده، ولعل أدل دليل أن
العصيدة ظلت طعامه المفضل والدائم – إلا أن يكون هناك ضيوف من الخاصة- في بيته مدة وزارته..
بل إنه عُيّر بذلك، فقد حدثني أحد المطلعين من أصدقاء الوالد رحمه الله، أن بعض مجالس
الحكومة الأولى بعد الاستقلال خصص لمناقشة أجور الوزراء، فاقترح أن تكون 5000 درهم
– وهو مبلغ كبير
جدا آنذاك- فتدخل العلامة السوسي، مطالبا بتخفيض المبلغ إلى أقل من النصف، لأن
الدولة في بدايات التأسيس وينبغي للوزراء أن يكونوا أسوة لباقي موظفي الدولة في
الاقتصاد والتدبير والقناعة، حتى تنهض الدولة وتتقوى، فما كان من بعض الحاضرين إلا
أن تهانفوا في ما بينهم مستنكرين قائلين: "ما لهذا البدوي وللفلوس، إنما شأنه
أن يأكل العصيدة وينام.."
وقد قدم لهذا التأليف الطريف الأستاذ الدكتور العلامة اليزيد الراضي، فأحسن
التقديم وكيف لا وإنما يعرف الفضل لأهله ذووه، فهو أديب شاعر متخصص في الأدب
المغربي عموما، وفي الأدب السوسي بوجه خاص، مطّلع على أسراره وخباياه، مقدّر لعمل
الأدباء والعلماء في تأليفهم وإبداعاتهم، وقد أبدى وأعاد في تحليل القصيدة وشرحها،
وبيان سماتهما وخصائصهما المضمونية والفنية، قال يصف هذا التأليف الفريد:
"والشرح رغم صغر حجمه، ورغم ارتباطه بقصيدة هزلية، شرح نفيس، ملأه
الشارح بما يمتع القارئ ويفيده، ففيه إلى
جانب الهزل الذي يتم به الترويح عن النفس، وتجديد النشاط، معلومات قيمة ، تسهم في
تكوين شخصية الإنسان، وتأهيله للقيام
بأدوار الخلافة المنوطة به في هذه الدنيا، ولو أردنا أن نتتبع هذا الشرح، لوجدناها
كثيرة ومنها على سبيل التمثيل :
1- إفادات لغوية كثيرة ، من شأنها أن تُنَمِّيَ لدى
القارئ رصيده اللغوي ، وأن تُقَوِّم لسانه ، وتعصمه من اللحن والخطأ ، وتمكنه من
التعبير عما يريد التعبير عنه ، بلغة عربية سليمة ، وبأسلوب جميل .
2 ـ استشهادات كثيرة بأبيات شعرية جميلة
، تتضمن الحِكَم البالغة والمواعظ النافعة
.
3- إفادات
أدبية هامة ، تنضوي تحت لوائها إشارات بلاغية ، وملاحظات نقدية ، وأمثال عربية ، وضَرَائِر
شعرية ، وما إلى ذلك ."
كما زاد هذا الكتاب تألقا اجتهاد ولد المؤلف الأستاذ عبد الوافي رضى الله السوسي
– على عادته- في
إخراجه مقابلا على عدة نسخ منها نسخة المؤلف الخطية، وتصحيح المتن والتعليق عليه
وتخريج آي القرآن الكريم وحديث سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، والتعريف بالأعلام
المذكورين بالمتن، كما حرص على التعريف بمن كان كان سبب تأليف الكتاب وهو الفقيه
سيدي امحمْد التناني رحمه الله(-1998م)، ثم ختم عمله بتمهيد رائق خصّه للتعريف
بالعصيدة، وهي حرِيَّة بالتعريف، لاسيما لأبناء هذا الجيل من الناشئين في الحواضر
الذين استبدلوا بالعصيدة وأخواتها من الأطعمة البدوية الساذجة أكلات الحواضر
الفاخرة، بله الأكلات غير المغربية شامية وتركية ويابانية وفرنسية وأمريكية، خاصة
سريعة التحضير التي تتناول في المحلات على عجل، وقد ساق الناشر في تقديمه سوقا لا
يبقي ولا يذر.. كل ما أمكن له الوقوف عليه مما تعلق بالعصيدة حتى ذكر المنسوبين
إليها من الأعلام والأماكن.. فكان عمله موازيا لعمل والده، الذي إن أنصف العصيدة
مدحا ووصفا ثم شرحا للمدح والوصف، فإن ولده أنصفها بإيراد كل ما له علاقة بها
وباسمها.. فكان بحثه نافعا مثمرا بحول الله.
هذا وإن هذا الكتاب يمثل تلك الحلقة الوضاءة من الوفاء لتراث السلف الصالح
لوطننا العريق الماجد، من الذين أفنوا حياتهم في خدمة كتاب الله وأهله رحمهم الله،
فاجتمع لإخراج هذا الكتاب:
-
الأبناء البررة ممثلين في الأستاذ عبد الوافي رضى الله العامل بجد وكد وصبر
دائب على إخراج المخطوط من تراث والده.
-
والأصدقاء الأوفياء ممثلين في السيد الفاضل إبراهيم بن عيسى وباعوس وفقه الله وقضى أربه، الذي
بقي وفيا لتلك العلاقة الفريدة التي كانت بين والده والعلامة السوسي.
-
ثم الباحثون العلماء الأفاضل ممثلين في فضيلة الأستاذ الدكتور اليزيد
الراضي الذي قام بالواجب تجاه تراث العلامة السوسي فواكب نشر هذا الكتاب مطالعة وتقديما.
فكانت نتيجة هذا
التعاون والتلاؤم والتواؤم، وتلك المحبة
والود، وذلك الإخلاص والوفاء، صدور هذا الكتاب في حلة انيقة شكلا ومضمونا، ليذكّرنا
مرة أخرى بالعلامة السوسي وحكمته وعلمه وأدبه، وليذكّرنا من خلاله بعلماء الوطن
والأمة الماجدين الذين ملأوا الدنيا نورا وفضلا وعبقا، ولازالت آثارهم تدل عليهم،
فتتنزل بذكرهم الرحمات ، وتربو البركات، وتهفو النفوس للطاعات، وتكشف عنها الكربات،
برضى رب الأرض والسماوات.
والحمد لله أولا وآخرا
-
الكتاب: الثريدة المناغية للعصيدة.
-
المؤلف: محمد المختار السوسي
-
الناشر: عبد الوافي رضى الله السوسي
-
عدد الصفحات:184صفحة
-
الطبع: مطبعة المعارف الجديدة الرباط، 1434-2013.
هناك 3 تعليقات:
قصيدة أسرتني بروعتها أثناء تصفحي للجزء الأول من المعسول و بقيت أتابع اخبارها حتى توصلت لنشر إلكتروني لشرحها الموسوم بالثريدة المناغية للعصيدة بتقديم أستاذنا المهدي السعيد فقرأت مقدمته آنذاك و التي تناولت إشكالية الشروح للشعر العربي ... و بمجرد أن وجدت نسخة مطبوعة منها في المكتبة هذه الأيام التقفتها و أنا الآن أتلذذ بالقصيدة و غابت عني العصيدة
الأخ الفاضل الكريم مرحبا بك وأهلا وسهلا، قصيدة العصيدة ممتعة وشرحها كذلك وهي تحمل روح مبدعها ومؤلف الشرح، روح أريحية سامية لا تنزل بها الأريحية إلى الإسفاف الذي لا يخلو منه كثير من الناس فإذا أرادوا أن يحمضوا لا تسمع منهم إلا ما يخدش الحياء ويؤذي النفس، إن سلفنا رحمهم الله كانوا على مستوى عال جدا فالمعرفة والعلم مطمحهم في جد ومزاح، والعلامة السوسي أحدهم فإذا جد أنتج المعسول وإخوته في ما يقارب المائة جزء، وإن أحمض فالثريدة وقطائف اللطائف، وختاما اخبرك أنك ستحصل قريبا على كتاب آخر طريف للعلامة السوسي وهو قطائف اللطائف: حكايات ونوادر سوسية مضحكة.. ( ولكنها ذوات مغاز ومعان عميقة يدركها من ينظر وراء ما فيها من هزل وبسط) فريثما تنتهي من الثريدة تصلك القطائف بحول الله والسلام عليكم
الشكر الجزيل لك يا أستادنا الفاضل لقد تعلمت منكم الشئ الكثير في الجامعة .تعلمنا الغيرة على المغرب وعلماءه المظلومين إعلاما .وعرفنا منهم الكثير من علمكم .بارك الله لك في علمك وموسوعيتك.أحبك في الله.
إرسال تعليق