عبارة رددها كل من عرف تارودانت وجامعها العتيق البارحة في الأزقة والدور
وكل مكان فيها، في المكالمات الهاتفية والشبكية في البريد الإلكتروني وكافة أشكال
التواصل والاتصال، "احترق الجامع الكبير.." ما أفظعه من خبر وما أهول وقعه على النفوس التي
ألفت الجامع الكبير، والصلاة في الجامع الكبير، والمرور بجانب الجامع الكبير،
والوقوف تحت ظل أسواره وبجانب صومعته، إن تارودانت هي الجامع الكبير، والجامع
الكبير هو تارودانت، بتاريخها وتراثها وأدبها وفكرها وثقافتها، ورجالها ونسائها..
واخبارها وأحداثها....
صباح هذا اليوم فتحت صفحة الأخبار بأحد المواقع فلم أستطع أن أصدق ما رأته
عيناي: الجامع الكبير بتارودانت احترق بشكل كامل.. يا لله ما هذه المصيبة؟ كيف حدث
هذا؟ ماذا وقع؟ كنت ما بين مصدق ومكذب، لابد أن هناك غلطا، كيف يحترق الجامع
الكبير وهل هو علبة ورق؟ غير أن الصور قطعت الشك باليقين، وبدا لي الجامع الكبير
الذي أعرفه وقد صار رمادا وارتفعت أعمدة الدخان من جوانبه إلى عنان السماء.. لقد صار
رمادا.. رمادا...
إنها صدمة وأي صدمة تلك التي يشعر بها من يعرف هذا الصرح العظيم، الذي لم تحترق
أخشابه وأعمدته وسقوفه وسواريه، فقط وإنما احترقت معها ذكريات الصبا وأيام الطفولة
( نفحات الشباب).. فما من ناشئ في تارودانت إلا وتذكر أيام الجامع الكبير
الجميلة.. تذكر الصلاة والذكر، تذكر القيام والصيام، تذكر مجالس الوعظ والتوجيه،
وكراسي العلم والتدريس، تذكر ما رأته الأعين وشهدته النفوس منذ عقود وما حفظته
الذاكرة وسوّده العلماء والمؤرخون في طروسهم عن قرون مضت، كان فيها هذا الجامع
محور المدينة، ومجتمع أرباب العلوم والفنون، وأصحاب الرئاسة والسلطة، ومقر قرارات
الحرب والسلم والصلح والبيعة..
هل يعقل أن يحترق الجامع الكبير الذي عايش قوة محمد الغالب ومحمد الشيخ
وسطوة المنصور، وثورة يحيى الحاحي ونفوذ أبي حسون السملالي، وانتصارات المولى
الرشيد الذي غزا مدينة إيليغ فهدمها وحمل مصاريع أبوابها لتكون مصاريع أبواب
الجامع الكبير.. وليترك بصمته الخالدة في بعض قبابها حينما قام بإصلاحها وسجل في
جزء من جبصها تاريخ الإصلاح والقائم به من المعلمين.
هل يعقل أن يحترق الجامع الكبير الذي عاصر ثورة محمد العالم والمولى الحران وابن محرز..وكل مغامرات طلاب السلطة من فاقدي الشرعية ومفارقي الشرع..
هل يعقل أن يحترق الجامع الكبير.. الذي شهد خطب ابن الوقاد ومجالس أبي مهدي
عيسى السكتاني ودروس التمنارتي والتهالي والهوزالي.. وامزارگو والجشتيمي والشرادي
والقاضي الرسموكي... ودروس أفواج طلبة المعهد الروداني في سنواته الأولى قبل بناء مقره..
هل يمكن أن يحترق الجامع الكبير مجلى أساطين العلم ومجر عواليهم، وموئل
طلاب الفكر ووراد الفهم، فكم مسائل شرحت في رحابه، وكم من قضايا أثيرت في جنباته،
وكم من كتب تليت في أنحائه، وكم تلاوات تليت في قبابه، وكم أئمة قاموا في محرابه،
وكم جباه سجدت على أرضه؟ وكم دموع إنابة وكفت في فجره وعشائه؟ وكم من أذكار في
ظهره وعصره؟ وكم من أحزاب قرئت في صبحه ومغربه؟ وكم أجيال تتالت في إعماره؟ وكم من
أنفس تمتعت بشميمه؟
الجامع الكبير ذلك الصرح الممرد من طهارة العقيدة السمحة وعبق التاريخ،
المضمخ نسيمه بمسك التلاوات تشدو بها حناجر القراء الصادحين.. وحلاوة الأمداح في
جناب النبي الأمين صلى الله عليه وسلم.. الجامع الكبير المتميز بهدوئه وسكونه وسط ضجة الحياة
وضجيجها.. إنه إحدى أطهر البقاع في هذه المدينة الهادئة الهانئة.. صار رمادا ...لا حول
ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
كان الجامع الكبير صرحا عتيدا من صروح بلدنا الحبيب، كنت أمر بجواره وبجوار
صومعته، في امتدادهما في السماء وخلودهما على الأيام، فأتذكر قصيدة ابن خفاجة في
وصف الجبل، التي يقول فيها: ( وقد حورتها لتناسب الجامع الكبير وليراجع الأصل في
ديوان الشاعر.)
وَأَرْعَنْ
طمّاح الذؤابة باذخ
|
يطاول
أعنان السماء بغارب
|
يسد مهب الريح
عن كل وجهة
|
ويزحم
ليلا شهبه بالمناكب
|
وقــور
على مرّ الليــالي كأنه
|
طوال
الدهور مفكر في
العواقب
|
يلوث عليه الليل
سود عمائم
|
لها من وميض البرق
حمر ذوائب
|
اصخت اليه وهو
اخرس صامت
|
فحدثني
ليل السـرى بالعجائب
|
وقال إلى كم
كنت ملجأ زاهد
|
وموطن
أواه تبتل تائب
|
وكم مر بي
من مدلج ومؤوب
|
وقال بظلي من
مطي وراكب
|
فما كان إلا
أن طوتهم يد
الردى
|
وطارت بهم ريح
النوى والنوائب
|
فما خفق
أيكي غير رجفة
أضلع
|
ولا نوح
وُرقي غير صرخة
نادب
|
وما غيض السلوان
دمعي وإنما
|
نزفت دموعي
في فراق الصواحب
|
فحتى متى أبقى
ويظعن صاحب
|
أودع منه راحلا
غير آيب
|
وحتى متى
أرعى الكواكب ساهرا
|
فمن طالع أخرى
الليالي وغارب
|
فرحماك يا مولاي
دعوة ضارع
|
يمد الى نعماك
راحة راغب
|
فاسمعني من وعظه
كل عبرة
|
يترجمها
عنه لسان التجارب
|
فسلى بما أبكى
وسرى بما شجا
|
وكان على عهد السـرى خير صاحب
|
وقلت وقد نكبت
عنه لطية
|
سلام فانا من
مقيم وذاهب
|
حينما قرأت الخبر جلست حزينا كئيبا يلفني شعور بالضياع.. كمن فقد – فجأة – كل عزيز عليه – نسأل الله اللطف والسلامة- تذكرت الجامع الكبير الذي كان أول ما لفت نظري وأنا طفل صغير حديث عهد بمدينة تارودانت، وقد أسكننا الوالد رحمه الله المنتقل – آنذاك- من مركز إيغرم بقمة الأطلس الصغير إلى تارودانت موظفا بمحكمة السدد بها (المحكمة المركزية ثم المحكمة الابتدائية حاليا) بحي سيدي حساين، كان عمري حوالي 6 سنوات، في مغرب اليوم الموالي لقدومنا رافقني الوالد رحمه الله إلى الجامع الكبير، وقد لبست أحسن ما لدي من ثياب وذهبت لصلاة المغرب، صلينا المغرب وأخذني الوالد إلى جانبه ليجلس في محراب المسجد مع طائفة من الفقهاء لتلاوة الحزب المسائي، كنت أستمع وانظر إلى هذا المنظر الذي لم أره من قبل، وقد خلبت لبي أصوات القراء، وأطارت صوابي زخارف المسجد في الخشب والجبص، في الجدران والسقوف، وكانت تلاوة الحزب آنذاك تبث على الهواء إلى خارج المسجد انطلاقا من مكبرات الصوت الجهيرة الموضوعة في أعلى الصومعة المرتفعة إلى السماء.
رجعت إلى المنزل، فاستقبلتني الوالدة فرحة مسرورة وقد استمعت إلى تلاوة
الحزب وهي في المنزل القريب من المسجد، منذ هذه اللحظة بدأت علاقتي بالجامع الكبير،
وقد ألزمني الوالد رحمه الله أن أذهب كل يوم لتلاوة الحزب الراتب حاملا مصحفي بين
يدي،
ثم مر الزمان سريعا وازدادت صلاتنا بالجامع الكبير متانة، وكيف لا وقد كان
مسجدنا الدائم لأداء الصلاة، بعد أن نقلنا الوالد رحمه الله إلى منزلنا الجديد الذي
شيده بحي باب الزركان، في الدرب الواقع أمام مسجد أبي ثابت الأثري المندثر الذي
تحول إلى ضريح يزار ثم صار أخيرا أثرا بعد عين.
ومضت سنوات تعرفت خلالها على أفواج من حفاظ القرآن
الكريم المداومين على تلاوته في صباحات الأيام ومساءاتها، حينما كانت جنبات الجامع
الكبير تهتز بتلاواتهم الرخيمة المؤثرة التي تبرز حفظهم المتقن، وكثير منهم سقطت
أسماؤهم من الذاكرة وأذكر
منهم السيد الحسين والسيد بلعيد الخيّاطان، وكان الأخير منهما يثير اهتمامي بتلاوة
الحزب وهو مطبق أسنانه بعضها على بعض..
كما عرفت في الجامع الكبير بعض زواره الذين
كانت تجللهم الغرابة، مثل شيخ كبير السن أسمر البشرة نجده في الجامع عندما نذهب
إليه، ولا يخرج إلا بعد انصرافنا، وكان لا يسجد عند سجدة التلاوة، واذكر أن بعض
أقراني اخبرني انه كان من المقاومين وأنه تعرض للتعذيب من المستعمرين حتى عجز عن
السجود، فلذلك كان يصلي دائما قاعدا.. كنا نراه دائما بالمسجد حتى توفي في زمن لا
أذكره الآن.
كما عرفت في الجامع الكبير بعض القيمين
بشؤونه مثل الفقيه الحاج محمد المنتاگي إمامه الراتب وخطيب الجمعة ، وابنه الذي
كان يجلس ليقرأ معنا الحزب كل مساء وعوض أن يشتغل بالتلاوة كان يشوش علينا بما
يضحكنا به من نكات ونظرات والده الحادة ترمقه مهددة متوعدة، ومؤذن المسجد السيد
أشهبون والد أستاذي في التربية الإسلامية بثانوية ابن سليمان الروداني، والذي كان دائم المراقبة لنا يخاصمنا عند أدنى حركة..ويراقبنا
ويتمعن في أحوالنا إبان تلاوة الحزب الراتب، وأذكر السيد الرحوم ساعي البريد الذي
كان يتلو حديث الإنصات أيام الجمع، واذكر مؤذنين آخرين كان لكل منهم نبرته الخاصة،
وصوته العذب القوي، أتذكر منهم المؤذن المرحوم "الفيو" الذي كان يهز
أركان المسجد بأذانه وأذكاره خاصة في رمضان بصوته المزلزل كالرعد، وأتذكر أنه ما
يكاد ينتهي من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في فجر كل رمضان أذن فيه إلا
وأتبعه بقوله تعالى: (وقل الحمد الله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك
وكبّره تكبيرا) فيتبعه بلا فاصل بالأذان.
كما كان بعض هؤلاء
المؤذنين يحملون مفاتيح ضخمة لأبواب المسجد ولا يترددون في رميها على كل من يحدث ضجيجا
أو فوضى من الأطفال. وكان يروقنا أن نبقى بالمسجد بين الظهرين حيث الهدوء والسكينة،
فنجلس إلى فسقية الماء في فنائه وحولها بعض أشجار الحوامض، نتلهى باقتطاف ثمارها غير
الصالحة للأكل وبمراقبة النحل والطيور التي تأتي للشرب في مياه المسجد.
وكان ليوم الجمعة وقع خاص في نفوسنا، ففي هذا اليوم كان يمتلئ
المسجد بطلبة معهد محمد الخامس الذين كان يسمح لهم بالخروج في هذا اليوم فتمتلئ بهم
جنبات المسجد، يجلسون فيه للمراجعة والاستذكار، وكان يروق لي أن أراهم يجلسون زرافات
ووحدانا في هدوء وسكون يراجعون دروسهم ويقلّبون أوراقهم وكتبهم، فكان منظرهم من كبار
المحفزات لمن كان يرغب في الدراسة والتعلم.
كما كان لرمضان طعم خاص بالجامع الكبير، فبمجرد
أن ينفضّ الناس من صلاة الظهر كان الفقيه الأستاذ سيدي محمد الغالب يأتي متأبطا جزءا
من صحيح الإمام البخاري ليعتلي كرسي الدروس وينطلق بسلاسة ومهارة في سرد الأحاديث وشرحها
وبيان ما فيها من فوائد لغوية وفقهية وعقدية، ونحن مأخوذون بفصاحته وعلمه وسعة
معارفه، وكان أكثر ما يثير اهتمامنا سوقه لبعض القصص والحكايات أثناء حديثه، فنبقى
مشدوهين متتبعين ما يقولون متلذذين بما فيه من حكمة وبلاغة.. وكانت هذه الدروس
يومية في رمضان، وكنا نتتبعها ونحن في عطلاتنا المدرسية الصيفية، نسعد بما فيها من
فوائد وبما لصاحبها من فصاحة وذلاقة لسان حفظه الله وبارك في عمره، ثم إن تلك
الدروس الرمضانية اليومية صارت بعد زمن أسبوعية ثم انقطعت بعد ذلك.
انتقلت إلى الثانوي، وإلى السنة الأخيرة منه، فصار الجامع الكبير مكان الهدوء والسكينة أفضل محل للمراجعة والاستعداد للامتحان، كنت آوي إليه بين الظهرين مع زميلي في الدراسة "المحجوب السگراني" فنجلس الساعات الطوال ننظر في الكتب ونراجع الدروس وربما بقينا هناك حتى المغرب لا يزعجنا أحد، ولا يكدر صفو سكينتنا شيء.. كان الجامع الكبير قد تغير، فقد مسته يد ظنت أنها أصلحته فلم تزد إلا أن طمست بعض نقوشه وضخّمت سواريه، وما لبث أن غزت الحفر أرضه، ولولا تدخل بعض الغُير من العارفين لعدا الطمس على صومعته التي أراد صاحب المشروع أن يطمس زخارفها وزليجها الأثري ولكن الله سلم، كما عزل إمامه المنتاگي نتيجة ما شهده آخر العقد الثامن من القرن الماضي من فتن، ونتج عن ذلك وقوع بعض الاضطراب في سير المسجد، حتى أوتي إليه بإمامه الحالي الحاج محمد بن يحيى فبقي فيه مجاهدا حتى يوم الحريق المشؤوم ..
انتقلت إلى الثانوي، وإلى السنة الأخيرة منه، فصار الجامع الكبير مكان الهدوء والسكينة أفضل محل للمراجعة والاستعداد للامتحان، كنت آوي إليه بين الظهرين مع زميلي في الدراسة "المحجوب السگراني" فنجلس الساعات الطوال ننظر في الكتب ونراجع الدروس وربما بقينا هناك حتى المغرب لا يزعجنا أحد، ولا يكدر صفو سكينتنا شيء.. كان الجامع الكبير قد تغير، فقد مسته يد ظنت أنها أصلحته فلم تزد إلا أن طمست بعض نقوشه وضخّمت سواريه، وما لبث أن غزت الحفر أرضه، ولولا تدخل بعض الغُير من العارفين لعدا الطمس على صومعته التي أراد صاحب المشروع أن يطمس زخارفها وزليجها الأثري ولكن الله سلم، كما عزل إمامه المنتاگي نتيجة ما شهده آخر العقد الثامن من القرن الماضي من فتن، ونتج عن ذلك وقوع بعض الاضطراب في سير المسجد، حتى أوتي إليه بإمامه الحالي الحاج محمد بن يحيى فبقي فيه مجاهدا حتى يوم الحريق المشؤوم ..
ثم جاء عهد الجامعة والدراسة بها وتعميق المعرفة، فلم تنقطع
الصلة بالجامع الكبير، وكيف لا وقد وجدته في المصادر والمراجع مذكورا بمن كان به من
العلماء، ومن درس به من الفقهاء وما كان في خزانته من الكتب والمخطوطات.. وجدته في
الفوائد الجمة لأبي زيد عبد الرحمان التمنارتي، وفي وفيات الرسموكي، وفي كتب العلامة
محمد المختار السوسي، وفي كتاب الحركة الفكرية على عهد السعديين لمحمد حجي وفي غيرها
من الكتب والدراسات والأبحاث، فرأيتني وأنا الذي عرفت الجامع الكبير بسقوفه وأعمدته
وحيطانه وفنائه وصومعته، ازداد علما بتاريخه
وماضي رجالاته وأثره في الفكر والثقافة المغربية والإسلامية عامة، وما مر عليه من أهوال
وأدوار كادت تقضي عليه، غير أن ذلك لم يقدر له إلا هذا اليوم ولله الأمر من قبل ومن
بعد.. فصرت إذا دخلت الجامع الكبير تخيلت مجلس العلامة التمنارتي وقد تحلق حوله الطلاب
يأخذون عنه، وقد حضر درس ختمه لبعض الفنون، بعض فقهاء بلاد السودان المغربي، فأتم الدرس
ودعا للجميع وختم مجلسه بالإجازة العامة لكل من حضر من طلبته وابنيه ..وتخيلت الإمام
ابن الوقاد وهو يقف على المنبر خطيبا مصقعا، يدعو إلى مكارم الأخلاق وينبه على مزالق
الأنفس والقلوب.. وتخيلت أبا مهدي عيسى السكتاني ترد عليه الفتاوى والنوازل فيجيب عنها
متانيا باحثا منقبا..
صرت أرى في كل ركن من أركان الجامع الكبير جزءا
من تاريخه، وطرفا من أحداثه، وبعضا من مجريات الليالي والأيام، وربما وقفت لأضع يدي
على أبوابه أو جدرانه أو صومعته لعلي أشعر شعور من كانوا هنا قبلنا ومن مروا بالجامع
أو أموه للصلاة والذكر والعبادة أو للدراسة والتعلم، ولسان حالي يردد قول الشاعر:
أَمُـرُّ عَلَـى الدِّيَـارِ دِيَـارِ لَيْلَــى أُقَبِّــلُ ذَا الجـِدَارَا وَذَا الجــِدَارَا
وَمَـا حُـبُّ الدِّيَـارِ شَغَفْـنَ قَلْبِـي ولَكِـنْ حُـبُّ مَنْ سَكَـنَ الدِّيَـارَا
ثم أُغلِق الجامع الكبير مدة نافت على السنتين
للإصلاح، وحيل بيننا وبين زيارته، وصرنا نمر جنبه ولا نستطيع أن ندخل إليه ليحتضننا
ويضمنا إليه كما عهدناه دائما كالأم الرؤوم أو الأب الحنون، وطالت المدة إلى أن جاء
وقت الفرج وانتهت الأشغال وعادت المسجد إلى سابق عهد من العمارة بالصلاة والذكر والعبادات..
فصار بهي الشكل جميل المظهر متجدد الشباب، لولا ما ظهر من آثار الاصلاح غير المتقن
في بعض جنباته مع ما كلف من أموال وجهود..
تذكرت وأنا أنظر إلى صور الجامع المحترق، ما قرأته في وثائق
الأحباس عن المرصود له من جزيل الأوقاف، ومصاريف الإصلاح، وما وقع فيه في بعض الأعصر
من تشقق للسقوف وسقوط للجدران، وما بذل في سبيل الحفاظ عليه من جهود وما اعتور بعضها
من خلل وهفوات.. تذكرت كل ذلك وأنا أنظر إلى تلك الصور المحزنة..
إن احتراق الجامع الكبير بهذا الشكل المهول مصيبة عظيمة لتارودانت وتاريخها وفكرها وثقافتها وأهلها، وإنها لرسالة صامتة إلى كل مقيم بتارودانت وإلى كل سوسي وإلى كل مغربي وإلى كل مسلم.. رسالة صامتة إلى الجميع، فلنتاملها ولنستمع إليها، ولنتحسس ما فيها من عبر وعظات، بعيدا عن كل جعجعة لا طحن وراءها.. ففي ما وقع ألف عبرة وعظة ( لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.)
وكأنني بالجامع الكبير يخاطبنا جميعا، ليقول:
" أهذا ما استحقه منكم يا بني رودانة؟ أهكذا أعامل وقد جلل الشيب هامتي؟ ورمتني صوارف الأيام بنبلها؟ أهكذا تصان شيبتي بينكم؟ أهكذا الحرص والوفاء؟؟ أهكذا يصان تراث الأجداد عندكم؟؟ أهكذا تعامل وديعة الأسلاف لديكم؟؟ أهذه قيمتي ومكانتي فيكم؟؟ فوداعا وداعا يا من لا تهتمون بماضيكم.. وداعا يا من تنسون تراثكم.. وداعا يا من لا تنظرون إلى مجد ماضيكم إلا لتتفاخروا وتتنفجوا به .. وإلا لتتكسبوا به ثمنا قليلا أو جاها متوهما، لا لتأخذوا منه ما يحيي حاضركم، ويغرس بذور النهوض والتقدم في مستقبلكم.
وداعا وداعا.. لألحق بمن أشادوا صرحي بسواعدهم..وملؤوا جنباتي بصلواتهم.. وعمروا فنائي بدروسهم.. وتزودوا مني قوة ومنعة، وصبرا وعزا، ومجدا وحضارة حملوها إلى جهات الأرض، دعوة بالتي هي أحسن، ومعاملة بالتي هي أفضل..فنشروا العلم والمعرفة، وبثوا الطهر والعفاف وأشادوا المجد والحضارة، وتركوا لكم من الأخبار ما يحيي أفئدتكم، ومن الآثار ما يشحذ هممكم.
وداعا وداعا... ولأترككم لأنظر ما تفعلون بعدي.. أتشمرون على سواعدكم لتقتدوا بأسلافكم، فتشيدوا ما تهدم من أركاني، وترفعون ما تطامن من قبابي، وتجددوا عهدي الغابر ومجدي الداثر.. فتعمرونني بالصلاة والقيام والاذكار والدروس والمواعظ.. لتأخذون من كل ذلك زادا لمراجعة أنفسكم وتطوير حياتكم، وتحسين أحوال دنياكم، والإخلاص لوطنكم وأولياء أموركم، وصيانة وحدتكم، وجعل ذلك كله وسيلة لتشييد منازلكم في الأخرة، باليقين في العمل والإخلاص في القصد، والرغبة في ما عند الله.. فتعود مدينتكم مدينة العلم والدين، وموطن المعرفة والفكر، ومحل العلماء المؤلفين، والفقهاء المحدثين... أم تكتفون بالتباكي على ما كان من أمري .. والتخاصم حولي.. والتنافر بسبب ما وقع لي..؟؟؟ وتعودون بعد أيام لنسيان ما حدث لي، لتشتغلوا بشؤونكم اليومية، ومشاغلكم الوقتية، لا يهمكم من أمركم إلا دنيا تصيبونها، أو زاد تتقوتون به، أو سقف جديد تسكنونه، أو طريف محدث تتلهون به، فتعرضون على المعارف والعلوم، والأخلاق والخصال الحسنة، وقد نسيتم ما كان عليه أسلافكم من التشبث بالدين، والإقبال على العلم، والاعتزاز بتحصيل المعرفة، واتباع العلماء والتأسي بهم في كل شاذة وفادة.. فإن عدتم كذلك فأنا أقول لكم أنه لا خير فيكم، ولا صلاح يرجى منكم، ولا فائدة لكم في جامع جديد، فالمسجد والجامع بعمارته، وبإقبال أهله على صلاته وعبادته وعلمه ووعظه وذكره.. وجعل ذلك عماد المعاملة الحسنة، والخلق الطيب، والخصال الجميلة، فوداعا أيها الرودانيون وداعا...."
إن احتراق الجامع الكبير بهذا الشكل المهول مصيبة عظيمة لتارودانت وتاريخها وفكرها وثقافتها وأهلها، وإنها لرسالة صامتة إلى كل مقيم بتارودانت وإلى كل سوسي وإلى كل مغربي وإلى كل مسلم.. رسالة صامتة إلى الجميع، فلنتاملها ولنستمع إليها، ولنتحسس ما فيها من عبر وعظات، بعيدا عن كل جعجعة لا طحن وراءها.. ففي ما وقع ألف عبرة وعظة ( لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.)
وكأنني بالجامع الكبير يخاطبنا جميعا، ليقول:
" أهذا ما استحقه منكم يا بني رودانة؟ أهكذا أعامل وقد جلل الشيب هامتي؟ ورمتني صوارف الأيام بنبلها؟ أهكذا تصان شيبتي بينكم؟ أهكذا الحرص والوفاء؟؟ أهكذا يصان تراث الأجداد عندكم؟؟ أهكذا تعامل وديعة الأسلاف لديكم؟؟ أهذه قيمتي ومكانتي فيكم؟؟ فوداعا وداعا يا من لا تهتمون بماضيكم.. وداعا يا من تنسون تراثكم.. وداعا يا من لا تنظرون إلى مجد ماضيكم إلا لتتفاخروا وتتنفجوا به .. وإلا لتتكسبوا به ثمنا قليلا أو جاها متوهما، لا لتأخذوا منه ما يحيي حاضركم، ويغرس بذور النهوض والتقدم في مستقبلكم.
وداعا وداعا.. لألحق بمن أشادوا صرحي بسواعدهم..وملؤوا جنباتي بصلواتهم.. وعمروا فنائي بدروسهم.. وتزودوا مني قوة ومنعة، وصبرا وعزا، ومجدا وحضارة حملوها إلى جهات الأرض، دعوة بالتي هي أحسن، ومعاملة بالتي هي أفضل..فنشروا العلم والمعرفة، وبثوا الطهر والعفاف وأشادوا المجد والحضارة، وتركوا لكم من الأخبار ما يحيي أفئدتكم، ومن الآثار ما يشحذ هممكم.
وداعا وداعا... ولأترككم لأنظر ما تفعلون بعدي.. أتشمرون على سواعدكم لتقتدوا بأسلافكم، فتشيدوا ما تهدم من أركاني، وترفعون ما تطامن من قبابي، وتجددوا عهدي الغابر ومجدي الداثر.. فتعمرونني بالصلاة والقيام والاذكار والدروس والمواعظ.. لتأخذون من كل ذلك زادا لمراجعة أنفسكم وتطوير حياتكم، وتحسين أحوال دنياكم، والإخلاص لوطنكم وأولياء أموركم، وصيانة وحدتكم، وجعل ذلك كله وسيلة لتشييد منازلكم في الأخرة، باليقين في العمل والإخلاص في القصد، والرغبة في ما عند الله.. فتعود مدينتكم مدينة العلم والدين، وموطن المعرفة والفكر، ومحل العلماء المؤلفين، والفقهاء المحدثين... أم تكتفون بالتباكي على ما كان من أمري .. والتخاصم حولي.. والتنافر بسبب ما وقع لي..؟؟؟ وتعودون بعد أيام لنسيان ما حدث لي، لتشتغلوا بشؤونكم اليومية، ومشاغلكم الوقتية، لا يهمكم من أمركم إلا دنيا تصيبونها، أو زاد تتقوتون به، أو سقف جديد تسكنونه، أو طريف محدث تتلهون به، فتعرضون على المعارف والعلوم، والأخلاق والخصال الحسنة، وقد نسيتم ما كان عليه أسلافكم من التشبث بالدين، والإقبال على العلم، والاعتزاز بتحصيل المعرفة، واتباع العلماء والتأسي بهم في كل شاذة وفادة.. فإن عدتم كذلك فأنا أقول لكم أنه لا خير فيكم، ولا صلاح يرجى منكم، ولا فائدة لكم في جامع جديد، فالمسجد والجامع بعمارته، وبإقبال أهله على صلاته وعبادته وعلمه ووعظه وذكره.. وجعل ذلك عماد المعاملة الحسنة، والخلق الطيب، والخصال الجميلة، فوداعا أيها الرودانيون وداعا...."
أما أنا فلم أحر جوابا، إلا أن أقتبس أبياتا للعلامة الأديب
القاضي أحمد سكيرج حينما حل بتارودانت في العقد الرابع من القرن العشرين ووجد الجامع
الكبير مشوش الأركان، قد درست ملامحه وأشرف على الخراب، فتكدر من ذلك خاطره – كما هو حالنا الآن- فقال يشكو حاله إلى سلطان
زمانه، الملك محمد الخامس رحمه الله سنة1356هـ/ 1936م:
وَدَخَلْتُ جَامِعَهَا الكَبِيرَ فَهَالَنِي لَمَّا رَأَيْتُ دَعَائِمَ الحِيطَانِ
وَتَشَابُكَ الخَشَبِ الَّتِي بِسُقُوفِهِ وَشُقُوقَهُ مِنْ سَائِرِ الأَرْكَانِ
قَدْ غَيَّرَتْهُ يَــــدٌ تَظُـنُّ بِأَنَّهَا قَدْ أَصْلَحَتْ مَا فِيهِ مِنْ بُنْيَانِ
يَالَيْتَهَا هَدَمَتْهُ حَتَّى لَمْ يُضَـعْ مَالٌ بِهِ صَرَفَتْهُ فِي خُسْرَانِ
لَا سِيَمَا وَقَدِ اسْتَحَالَ لِصُورَةٍ شَوْهَاءَ بَعْدَ جَمَالِهَا الفَتَّانِ
لَا لَا أَرَى أَحَدًا يَرِقُّ لِحَـــالِهِ فِي حَالِهِ الحَالِي سِوَى السُّلْطَانِ
مَنْ مُبَلِّغٌ لِلْحَضـْرَةِ العَلَوِيَّةِ الـ ـشَّمَّاءِ حَالَ المَسْجِدِ الرُّودَانِي
فَقَدِ اسْتَحَالَ لِحَالَةٍ يُرْثَى لَهَـــا مِنْ بَعْدِ مَا قَدْ كَانَ فِي اسْتِحْسَان
هكذا نقتبس من العلامة سكيرج، لنقول بعد هذا
الحدث الجلل، ولا راد لقضاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، رافعين شكوانا إلى ملك
البلاد محمد السادس حفظه الله:
مَنْ مُبَلِّغٌ لِلْحَضـْرَةِ العَلَوِيَّةِ الـ ـشَّمَّاءِ حَالَ المَسْجِدِ الرُّودَانِي
فَقَــدِ اسْتَحَالَ لِحَالَةٍ يُرْثَى لَهَا مِنْ بَعْدِ مَا قَدْ كَانَ فِي اسْتِحْسَان
وإذا كان ما يمكن أن يحمد الله عليه في هذا
الحدث الجلل، فهو حفظ الله تعالى أرواح المصلين، وصيانته لنفوس الناس، فلو وقع هذا
الحدث - لاقدر الله- يوم جمعة أو وسط النهار لكان المصاب جللا ولكن الله سلم، ولكن
الله سلم، والحمد لله على كل حال، والأمر لله من قبل ومن بعد، والرجاء في الله أن يعود
الجامع الكبير كما كان بل أفضل مما كان، ببناء جديد، يحافظ فيه قدر الإمكان على ما
كان عليه من تصميم فريد وجمال أخاذ، مع الأخذ بعين الاعتبار أداء وظائفه المختلفة،
ومن أهم ما ينبغي أن يلتفت إليه تصحيح قبلته المنحرفة بأزيد من 30 درجة إلى الجنوب،
ورفع مستواه على مستوى الأزقة المحيطة به حتى يعلوها بمسافة مناسبة تحفظه من اللإغراق بالمياه كما وقع أخيرا، وتوسيعه
إلى الجهة الجنوبية الخالية التي كانت في الأصل مقبرة، وإضافة البقعة الفارغة في غربه
والمشغولة بالأشجار لتكون مدرسة علمية أو قرآنية..
إن إعادة الجامع الكبير إلى سابق عهده رهين بالمواءمة بين الجميل والنافع وبين الأثري والعصري، ليعود مسجدنا الجامع للقيام بمهامه بفتح أبوابه ليستقبل محبيه من المؤمنين القانتين الساجدين الذاكرين، التالين لكتاب الله تعالى، الصابرين المحتسبين على ما أصابهم، المرددين دائما وأبدا حال كربهم: إنا لله وإنا إليه راجعون.
إن إعادة الجامع الكبير إلى سابق عهده رهين بالمواءمة بين الجميل والنافع وبين الأثري والعصري، ليعود مسجدنا الجامع للقيام بمهامه بفتح أبوابه ليستقبل محبيه من المؤمنين القانتين الساجدين الذاكرين، التالين لكتاب الله تعالى، الصابرين المحتسبين على ما أصابهم، المرددين دائما وأبدا حال كربهم: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وليعود الأطفال إلى المشي في فنائه، ولينطلق
الأذان من مكبراته، مدويا بكلمة التوحيد، ولتحلق أسراب الحمام في فنائه، وتتراقص المياه
في نافورته، و النحلات تطير حولها مرتشفة من مياهها العذبة النميرة، بينما تمرر أصابع
الشيوخ الذاكرين حبات السبحات وهم ينتظرون حلول وقت الصلاة..وتعود تارودانت مزهوة بجامعها
الكبير الناهض من ألمه الممض بعزيمة صلبة تماثل عزيمة المغاربة في تمسكهم بدينهم وإيمانهم
وتوحيدهم لرب الأرض والسماوات العلي القدير ذي الملك والملكوت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق