بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 30 أغسطس 2009

موقف علماء المغرب من تقديس الأضرحة.

كنت أقرأ هذه الأيام الجزء الأول من كتاب خلال جزولة لمحمد المختار السوسي، وهو من مؤلفاته في أدب الرحلة العلمية، كتبه في سياق رحلاته العلمية خلال جبال الأطلس الصغير وما حواليهما بعد أن سمحت له الإقامة العامة للحماية بالخروج من منفاه بمسقط رأسه إلغ والتجول في منطقة سوس فقط سنة 1360موافق 1940، قال عن ذلك:

"فقد مضت خمس سنوات تامة بعد اليوم الذي أمرت أن أنزوي إلى إيلغ، فكادت النفس فيها لولا لطف الله تصدأ مرآتها، ويأجن ماؤها ويغيم أفقها، ثم إنه لما صرح لي في 13 - 12 - 1360 هـ بأني مطلق السراح في سوس، تطلعت إلى أن أغتنم الفرصة بحسب الطاقة لأستتم المجهودات التي كنت افتتحتها منذ اليوم الذي نفيت فيه إلى إيلغ مفتتح 1356 هـ، فأرسلت عيني إلى الأمكنة التي فيها طلبتي، وفي خزانتها رغبتي، وبين صدور رجالها أمنيتي، فرأيتها شتى؛ منها ما تكون حاجتي فيه على طرف الثُّمام، ومنها ما أراه أبعد من العيوق، فاخترت أن أفتتح بالجهة التي كانت سُبلها معبّدة أمامي قبل اليوم بكثرة الإخوان والأصحاب" (1)

تحدث العلامة السوسي في هذا الكتاب ن رحلته إلى أكادير وإنزكان وتارودانت وأكلو وإكرار والمعدر وأيت براييم والعوينة بأولاد جرار وتزنيت. ومعلوم أن للسوسي أربع رحلات علمية في نواحي سوسي ملأها إفادات علمية وأدبية وتاريخية وأحصى فيها من لاقى من العلماء والأدباء وما رأى في الخزانات الخاصة من نوادر الكتب والمخطوطات والوثائق، وقد أثرت هذه الرحلات حصيلته العلمية حول المنطقة ومكنته من جمع مواد مهمة لمؤلفاته الكثيرة خاصة جمهرته العظيمة المعسول في 20 جزء.

وقد أثار انتباهي في هذا الكتاب تصريح محمد المختار السوسي بموقفه من تقديس القبور والاحتفاء بها واعتقاد الناس في الراقدين بها، وهو اعتقاد طالما ندد السوسي في كتاباته بما فيه من مغالاة وخروج عن مقتضى الشرع وتجاوز للسنة النبوية المشرفة، ومن نماذج مواقفه استهجانه قيام والده ببناء قبة على ضريح مؤسس المدرسة الإلغية محمد بن عبد الله الإلغي وذلك في الجزء الأول من المعسول.

أما في كتاب خلال جزولة وفي هذا الجزء الأول، فنجد السوسي يقف مليا عند هذه الظاهرة التي تبرز ما يعانيه المجتمع من جهل وبعد عن المحجة البيضاء التي طالما نبه عليها علماء الشرع في المغرب، ونددوا بما فيها من شرك ووثنية.

ويظهر موقف العلامة السوسي في موطنين من كتابه، أولهما قوله وقد وقف على بعض الأضرحة بمنطقة أكلو الواقعة غرب مدينة تزنيت جنوب المغرب، وفيها قبور على كل منها دربوز ولباس:

" ..وعند منقطع كثبان الرمال هناك، مشاهد ثلاثة متقاربة: أحدها على من يسمونه بسيدي موسى، وقبته بنيت كما في بعض جدرانها سنة 1254 هـ وثانيها على من يسمونه بسيد مولاي، وقبته بنيت سنة 1264 هـ، كما كتب فيها أيضاً، وعلى كليهما دربوز ولباس، فقلت: أين من يلبس الأحياء يا عباد الله في هذا الوقت الذي عري فيه الأحياء، وتلبس فيه أعواد الموتى، أهكذا يا عباد الله دين الإسلام؟ أهذا مما يقبله العقل؟ فلم أشعر أن قلت:

ياليت لي سعـــــد القبو ******* ر فألبـس الحلـل الرفيعــة

ويشــــاد بيتـــي قبـــة******* شمـــــاء مــن قمــم بديعـة

ويطاف حولـي والجيو ****** ب تصب في وسط الربيعة (2)

ويصونني الحجاب ممـ ****** ـن سنهـم نحـوي سريعــــة

وتجيــب آمــــــــال إذا ****** ناديـــــت لبتنـــي ســريعــة

فأظل طـول العمـر في ****** علـــــــم ومرتبـــــة منيعـــة

حتى يجيء رسول ربـ ****** ـي كـــي أسلمـــه الوديعـــة

فـإذن تقضــى منيتــي ****** ممــــن حياتهـــــم خديعــــة

فيكــون أمــري للــذي ****** بعدي إذا أضحــى سميعــة

أن لا يسنــم مرمســي ****** وفق المحقق في الشريعة

فالخير كــل الخيــر في ****** بعــد الأنام عــن البديعــة(3)

دعني من الأقوال فهـ ****** ـــي كثيــرة شتــى صديعــة

ظلم لمــن يرنــو فــلا ****** يلقــى بمطلعهــــا صديعــــة

أمــا الطريــق المستنـ ****** ـير لمن هم من خير شيعــة

فالسنــة الغــرّاء نــــو ****** ر أبصِروا قومــي سطيعــة

ودعوا بنيات الطريــق****** مباعديــن عــن الذريعــــة

هــذا الرحيــق مروقــا ****** مــن ذا يــديــل بــه مجيعــة

من لــم تشرفــه الشريـ****** ـيعــة هــل تشرفــه البديعــة؟

رفــع النواوس عندنـــا ****** حقّاً مــن البــدع الفظيعــة

لكن لــدى الجهـال ليس ****** يعــــد عندهــــم شنيعــــة

(رجع وانعطاف)، وقد غفلنا حتى انجرّ بنا الكلام إلى ما لا نريد كثيراً أن نقضي فيه أوقاتنا؛ لأن الناس ما بين من لم يعرف ما يصنع فلا يقعقع له بشنان، وبين جاهل لا يرجع إلا بالقوة الدينية، وأين تلك القوة الدينية عندنا اليوم؟ ورحم الله الشيخ التاموديزتي جُنيد زمانه الذي كان دائماً ينكر مثل هذا، فيكسر الجص على قبر مثل شيخه المعدري، وعلى قبر سيدي سعيد بن عبد النعيم، ويأذن بأخذ الثياب التي على القبور ما أمن الآخذ أن يهتك عرضه، ويأمر بقلع الأشجار التي تعتاد النساء ربط الخرق بها، والاستعاذة بالجن الذي تتوهمه ساكناً إزاءها، ثم لما احتضر أوصى أن يدفن بين مقابر المسلمين، وأن لا يميز قبره بينهم، وقال: "إنني لا أسامح من جاء يدق فوق رأسي" هكذا أحيا السنة من هذه الناحية رحمه الله، ولكن صرخته ذهبت في واد، فلم تؤثر، أيحسب مثلنا من الجهال المذنبين أن يتصدى لذلك فيسمع له؟ اللهم لا، فإن الماء إذا لم يصف لا يصفى.

لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها ****** بنفسي لي شغل عن الناس شاغل

اللهم وفقنا لنعمل بما علمنا أنه حق، وقيّض لعبادك من تختاره لإرشادهم، فقد شغرت سبل الإرشاد وضاعت صوى الحق، ونشأ هذا الجيل يجهل العلم والعمل معاً، وإن كان من بعضه متمعلم، فإنك تجده أبعد الناس عن الحق وعن اتباع ذويه."(4)

ثانيهما: في وصف مخطوط قيم أحضره للسوسي صديقه علي بن الطاهر المحجوبي لما جاء للقائه، قال السوسي يصف ما احتوى المخطوط من نوادر المؤلفات:

" أجوبة للشيخ الفقيه حسين بن إبراهيم الجزولي عن أسئلة حول زيارة القبور وكيفيتها، وعن محل أرواح الموتى، وما معنى الموت؟ وهل يعرف الميت من زاره؟ وهل يجوز أخذ تراب من قبر تبركاً به؟ ... هذه الأسئلة هي التي أجيب عنها بهذا المؤلف، ولا أعرف الآن من هو حسين هذا من الجزوليين؟ وقد نقل في الكتاب عن القرافي، والبرنوسي، والغزالي، واليافعي، وإبراهيم بن هلال، والبرزلي، وابن المواز، وابن عبد البر، وعياض، والزمخشري، وابن لب، والجزولي يعني عبد الرحمن الكرسيفي، ثم الفاسي شارح الرسالة، ويستشهد أحياناً بالحديث، ومما أعجبني منه أنه قال: لا يمسح أحد القبر ولا يُقبّله ولا يمسه لأن ذلك من عادة النصارى. وكذلك الأخذ من تراب الصالح فهو بدعة، فالتبرك في الحقيقة باستعمال ما كانوا عليه من الأوصاف الدينية والأمور الشرعية، وقد ذكر هناك أن ابن عمر وقف على قبر أخيه عاصم وأنشد:

فإن تك أحــزان وفائض عبــرة ****** جرين دماً من داخل الجوف منقعا

تجرعتها في عاصم واحتسبتها ****** بأعظـم منـه مـا احتسـى وتجرعـا

فليت المنايـا كنّ خلّفـن عاصمـا ****** فعشنـا جميعــا أو ذهبـن بنـا معـا

دفعنـا بـك الأيــام حتـى إذا أتـت ****** تريدك لم نسطــع لها عنك مدفعــا" (5)

هكذا كان موقف العلامة محمد المختار السوسي من القبور وعبادها، في عهد الاستعمار الذي دعم تقديس المشاهد واعتنى بها إمعانا في خداع الناس والتلبيس عليهم، وقد توفي السوسي رحمه الله ورضي عنه غير أن صيحته هذه مازالت ترن في الآذان - ونحن قد جاوزنا السنة الخمسين للاستقلال - مشتكية اهتمام الناس بالأموات وإهمال الأحياء، والإيمان بالخرافات، وإلى الله المشتكى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

-------------------------------

1 - خلال جزولة 1- 5

2- الربيعة: العلبة تجعل عند رأس الميت في الضريح لتوضع فيها النقود.

3 - البديعة: جمعها بدائع وهي البدعة.

4- خلال جزولة 1/ 81-82.

5-نفسه، ص:57.


ليست هناك تعليقات: